تزامنت الذكرى الثالثة للحرب الأميركيّة - العراقيّة مع قول الرئيس المصريّ حسني مبارك إن «أغلب الشيعة» ولاؤهم لإيران، لا لبلدانهم. وكان سبقه الملك الأردنيّ عبدالله الثاني حين حذّر من «هلال شيعيّ» يلفّ المنطقة. وقد صدر هذا وذاك في موازاة تمرينات نشطة ومتنامية على حرب أهليّة سنّيّة – شيعيّة يخوضها العراقيّون، رافقها انبعاث قاموس يعود الى الحقبة العبّاسيّة، يرصّعه تعبيرا «الروافض» و»النواصب».

فإذا كان خطأً نفي الصلة بين الحرب التي جاءت ضارّة ومشوّهة، بفكرتها ذاتها وبأدائها وبإدارتها ونتائجها، وبين هبوب الريح الطائفيّة العاتية، عراقيّاً وعربيّاً، فخطيئةٌ ربط الريح المذكورة بالحرب وحدها، ومن ثمّ تبرئة النفس من الطائفيّة ومن الكوارث التي انجرّت، وتنجرّ، عن انفجارها.

والحال أن أخطر ما كشفته السنوات الثلاث المنصرمة أن الوقع العراقيّ عاجز عن تلقّف الحرب بوصفها تحريراً لأمّة موحّدة، أو هكذا يُفترض، كما أنه عاجز عن تلقّفها بوصفها احتلالاً ينبغي توحيد الأمّة في مواجهته. وفي هذا العجز المركّب عن استقبال الراهن وتحديّاته، يبدأ الانزلاق نحو الماضي الأوّل، بطيئاً وخجولاً ثم سريعاً ومتسارعاً، صاخباً ومجاهراً.

فكأن العراق خرج من الحاضر الحديث والسياسيّ، وفرغ إلا من الطوائف في واحدة من لحظات جنونها الهادر. وهو ما تنمّ عنه «السياسة» العراقيّة، أتجسّدت في «مقاومة» تستعجل الحرب الأهليّة في أقذر معانيها، أم في «حكم» تفضحه «عقدة إبراهيم الجعفري» على نحو لا تعوزه الفصاحة. وبهذا وذاك تنسدّ السبل جميعاً فيغدو المزيد من الطائفيّة «العلاج» الوحيد المتوافر للطائفية. فلو قُبل بالجعفري رئيساًَ للحكومة، مثلاً، لأفضى القبول إلى إحكام العزل على السنّة العرب وإلى دفع الأكراد خطوة أخرى نحو الخارج العراقيّ. أما رفض ترئيس الجعفري، فيما الزرقاوي يقتل الشيعة وأصوات سنّيّة، عراقيّة وعربيّة، تتهمهم بالولاء لإيران، فقد يتراءى بمثابة حصار ظالم لا يجد ما يفكّه إلا في إيران.

وبدوره، يقع الانكشاف العراقيّ على الوضع العربيّ وقع البرهان على أن التغيّر والتغيير وصفة للموت المعمّم. وعملاً بما يُقترح اليوم للسودان، أو للبنان، يلوح المستقبل مسدوداً تماماً، وليس في الإمكان أحسن مما كان...

فما بين ثوريّة مبالغة ومغالية استُعرضت في العراق، فأنتجت ارتداداً مُرّاً إلى الوراء والماضي، وإلى التفتّت والانهيار تالياً، ومحافظةٍ جامدة وقاتلة عربيّاً تسدّ الطريق الى المستقبل، تُرسم صورتنا اليوم، عصيّةً على العلاجات جميعاً، الداخلي منها والخارجي، التدرّجي والراديكالي.

وهذا، بحرب أميركيّة خرقاء أو من دونها، أقرب الى فاتورة تاريخيّة تنتظر فرصة سُدادها الذي أجّلناه طويلاً. وعلى رغم هذا، نمضي في التأجيل: فلا نواجه، مثلاً، المشكلة الأمّ التي تتمثّل في تقريب السنّة من الشيعة والشيعة من السنّة والطرفين من الأكراد في ظل وطنيّة عراقيّة جامعة، بل نهرب الى «المقاومة» التي لا ترضى لها عدواً أضعف من أميركا! أو نهرب الى «الديموقراطيّة» التي لا ترضى أقل من أميركا وأوروبا الغربيّة أنداداً ونماذج للقياس. وبهذا وذاك نكون كمن اختار تعميق الغطس في الوحل أداةً لتجفيف الوحل.

فلينظر العراقيّون حولهم، ولينظر العرب، وليتواضعوا قليلاً!