في العام 1998، حصل العالم الاقتصادي الهندي أمارتيا سن على جائزة نوبل للاقتصاد. مِن أسباب منحه تلك الجائزة إثباته أنّ المجاعات التي وقعت في القرن العشرين لم يكن سببها عدم وفرة الغذاء. فحين وقعت المجاعة في بنغلادش العام 1974 مثلاً، كانت كمية الغذاء المتوفّرة نسبة إلى عدد السكان أعلى منها في السنوات الثلاث التي سبقت المجاعة، كما في السنوات الثلاث التي تلتها. تتجاوز المشكلة إذاً نطاق الإنتاج، لتطال الفارق بين دخل المواطن والأسعار التي يواجهها في السوق. هكذا يمكن لمقاطعة هندية أن تواجه المجاعة، وأن يرتفع إنتاجها للغذاء في الوقت عينه. بمعنى آخر، يمكن للنموّ أن يرتفع، وللمستوى المعيشي أن ينخفض. يصدَّر الإنتاج إلى الخارج، ويموت الناس من الجوع في الداخل.

التكريم الذي ناله أمارتيا سن هو في الواقع اعتراف بالنقلة التي حقّقتها أدبيات التنمية منذ نهاية الستّينيّات. فقبل ذلك التاريخ، كان يتمّ اختزال التنمية بمؤشّر النموّ، أي بزيادة الإنتاج المعدّ للسوق. لم يقم هذا الاختزال على إهمال الأبعاد الاجتماعية للتنمية، إنّما على افتراض خاطئ يعتبر أنّ نموّ الإنتاج وحده كافٍ لتحقيق الأهداف الاجتماعية السامية. أدّت الدراسات المتلاحقة التي أعادت الاعتبار لفكرة <<التنمية>> على حساب فكرة <<النمو>>، إلى ظهور مصطلح <<التنمية البشرية>> المستخدَم حالياً في أدبيّات الأمم المتّحدة. لا شك في أنّ مقياس التنمية البشرية قاصر هو الآخر، لكنّه، على الأقلّ، يضيف إلى النموّ أبعاداً اجتماعية تتعلّق بالصحّة والتعليم. هكذا أصبح على الدول أن تحرز تقدّماً في هذين المجالين الأخيرين، بالإضافة إلى النموّ، حتّى تحرز تقدّماً في سلّم التنمية.

ليس لبنان بالطبع بنغلادش السبعينيات. والوضع المعيشي المتدهور لا يصل إلى حدّ وضع لبنان أمام خطر المجاعة. لكنّنا أمام وضع تتراجع فيه القدرة الشرائية للمواطنين أمام ارتفاع الأسعار. يكفي أن نراقب التضخّم الذي تابع تراكمه لعقد كامل من دون أن يوازيه أي ارتفاع للأجور. الترويج لمقولة أنّ تحفيز النموّ يحلّ هذه المشكلة هو غشّ للمواطنين. فالنموّ الذي لا يحمي من المجاعات، لا يمكن أن يحمي من التدهور المعيشي. فالتفاوتات الاجتماعية يمكن أن تترافق مع نموّ الناتج المحلي. وهذا يعني أنّ الرقم الذي يحرزه هذا الناتج ليس مهمّاً بحدّ ذاته ما لم يقترن بمعرفة تركيبته. إذا ما نظرنا إلى الناتج المحلي اللبناني من زاوية المداخيل، نجد أنّ خللاً كبيراً قد حصل بعد الحرب. فقد ارتفعت حصّة الفوائد على حساب الرواتب والأرباح. يشير ذلك إلى عملية توزيع للدخل باتّجاه محصّلي الفوائد. يكفّ التوزيع في الحالة اللبنانية عن كونه مسألة أخلاقية. تصبح إعادة التوزيع ضرورة لتحفيز النموّ نفسه.

يصمّ القيّمون على اقتصادنا آذانهم عن هذا الكلام، ليقيموا علاقة سببيّة بين النموّ وخلق فرص عمل جديدة. قد تكون هذه الفرضيّة المدرسيّة صحيحة، وقد لا تكون. فالولايات المتحدة مثلاً خرجت من الركود الذي تسبّبت به أحداث 11 أيلول من دون أن يساهم هذا النموّ في خلق فرص عمل جديدة (Jobless Recovery). فزيادة الإنتاجية والعمالة الأجنبية هي من العوامل التي قد تؤدي إلى نموّ من دون الحدّ من مشكلة البطالة. يبدو لبنان معرّضاً لهذا النوع من النموّ إذا ما استمرّ إهمال القطاعات الإنتاجية. فكم فرصة عمل توفر استثمارات <<سوليدير>> الجديدة؟ كم فرصة عمل لمشروع بمئات ملايين الدولارات لبناء ناطحة من مئة وخمسين طابقاً؟

يراد من هذا الكلام القول إنه حتّى الأدبيات الاقتصادية السائدة، وغير الجذرية بالمرّة، ما عادت تسمح بإعطاء النموّ أولويّة على ما عداه من مؤشّرات في البلدان النامية. وهذا يعني أنّ المواطن اللبناني، حين يستمع إلى رئيس وزرائه ووزير ماليّته يردّدان الحديث عن أولويّة النموّ كما لو أنّ هذا الكلام هو من البديهيّات، يجب أن يشعر أوّلاً بالغثيان، وثانياً بضرورة تجاوز الغثيان، والنزول إلى الشارع دفاعاً عن مكتسبات يطالَب بالتخلّي عنها دعماً للنموّ.