أغدق عدد كبير من الشخصيات العالمية البارزة المديح على هيرناندو دي سوتو، و منهم مارغريت تاتشر، واللورد أوين، وخافيير بيريز ديكويار، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، و فرانسيس فوكوياما، المفكر والمنظر والمؤلف الشهير كما اختارته مجلة )تايم( ليكون واحداً من بين خمسة زعماء سيقودون أمريكا اللاتينية في الألفية الجديدة.
حين زار لندن أخيراً، ليصدر كتابه الجديد، تلقى التكريم من )معهد الشؤون الاقتصادية(، و )مركز السياسة الخارجية(، الذي ضم مجموعة من الخبراء و المستشارين المقربين من روبن كوك، وزير خارجية بريطانيا السابق و صناع القرار السياسي في )داوننغ ستريت(.
يعود سبب هذه الحفاوة إلى أن الاقتصادي البيروفي البالغ من العمر 59 سنة، قد وجد ـ إن صح زعمه ـ الجواب الشافي عن واحد من أشد الأسئلة المقلقة التي تواجه العالم اليوم: لماذا لا تجني معظم دول العالم ثمار ما افترض أنه انتصار الرأسمالية، رغم مرور أكثر من عقد على نهاية الحرب الباردة و انهيار الشيوعية؟

لم تتزامن نهاية الشيوعية مع انطلاقة الرأسمالية لدى معظم الدول التي لم تكن قوية فيها في السابق. فالنظام الاقتصادي القديم، الخاضع لهيمنة أمريكا الشمالية،و أوروبا الغربية، و جنوب شرق آسيا، ما زال على حاله.

يرى دي سوتو أن الرأسمالية خذلت خمسة أسداس سكان العالم. و هو يتساءل عن السبب الذي جعل الرأسمالية تنجح في الغرب و تخفق في كل مكان آخر من العالم؟ و السؤال كان العنوان الفرعي لكتابه: ( سر رأس المال).

يجب ألا يشكل تقدم الرأسمالية المذهل خارج نطاق هذه الحلقة الداخلية الضيقة من الدول التي ترتع في الازدهار و الرخاء و المزايا، سبباً يدعو الغرب للاطمئنان و الرضى الذاتي. فبرأيه إن ) ساعة انتصار الرأسمالية العظيم هي ساعة أزمتها. فقد أنهى سقوط جدار برلين أكثر من قرن من التنافس السياسي بين الرأسمالية و الشيوعية، و وقفت الرأسمالية وحدها باعتبارها الطريقة الوحيدة المجدية عملياً و القادرة على تنظيم الاقتصاد الحديث بطريقة عقلانية. في هذه اللحظة من التاريخ، لم يكن ثمة خيار أمام أية أمة مسؤولة وجديرة بالثقة، لذلك عملت دول العالم الثالث و الدول الشيوعية السابقة بدرجات متفاوتة من الحماسة على تحقيق التوازن في ميزانياتها، و إلغاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية، و الترحيب بالاستثمار الأجنبي،
و إزالة الحواجز الجمركية(.

)لكنها لم تتلق بالمقابل سوى خيبة أمل مريرة: من روسيا إلى فنزويلا، كانت السنوات الخمس الماضية فترة من المعاناة الاقتصادية، و تدني مستوى الدخل، و انتشار مشاعر القلق و السخط و الاستياء
عمل دي سوتو خبيراً اقتصادياً لدى منظمة (الغات)، الهيئة التي تدير ( الاتفاقية العامة حول التعرفة والتجارة ) في جنيف.
و أسس مشروعاً تجارياً ناجحاً في أوروبا قبل أن يعود إلى البيرو في الثمانينات، ويعاين المشكلات الاقتصادية العويصة التي تعانيها بلاده.

في أوائل التسعينات أصدر كتاباً بعنوان )الدرب الآخر( أعلن فيه بعضاً من أفكاره. اختار العنوان عمداً ليكون بمثابة هجوم مباشر على )الدرب المضيء(، الجماعة الماوية الإرهابية الشهيرة في البيرو، التي تتبنى مبادئ خاصة بها حول كيفية انتشال فقراء البيرو من مهاوي الفقر.

المتطرفون و المعارضون المتحمسون و المناهضون للرأسمالية في أمريكا اللاتينية لا يوافقون على آراء دي سوتو.
و لهذا، أصبح هو، و) معهد الحرية و الديمقراطية( الذي أنشأه، هدفاً للهجمات بالقنابل و محاولات الاغتيال. و حتى في أيامنا هذه، بعد أن تم اعتقال العديد من زعماء منظمة ) الدرب المضيء (، و فقدها الكثير من قوتها، ما زال يعيش في حالة دائمة من خطر التعرض لهجوم إرهابي.

إجابة دي سوتو عن سؤال لماذا فشلت الرأسمالية في معظم دول العالم تتجنب معظم التفسيرات المعتادة. فالسبب لا يرجع حسبما يقول إلى ) الافتقار إلى الروح التجارية المغامرة لدى الناس و الدليل قدرة الملايين في العالم الثالث على كسب رزقهم في أصعب الظروف و لا إلى الثقافة، أو العرق، أو الدين، أو المناخ، بل إلى أن معظم الدول تفتقد المكون الأساسي للرأسمالية: رأس المال(. أو تفتقد بالأحرى القدرة على فك القيود المكبلة لرأس المال الموجود فعلاً.)فمعظم رأس المال في العالم النامي ميت (. لأنه لا يستطيع أداء وظيفته الاقتصادية الصحيحة، كما يقول.
و (الفقراء) في معظم دوله ليسوا فقراء
على الإطلاق. فلديهم أصول و مدخرات. في مصر مثلاً وجد
دي سوتو و فريق البحث التابع له أن الأصول التي يملكها الفقراء تزيد بخمس و خمسين مرة عن إجمالي حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي دخل البلاد، إضافة إلى عائدات قناة السويس و سد أسوان.

و يبلغ رأس المال المتراكم لدى فقراء العالم 9300 مليار دولار، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. المشكلة تكمن في أن معظم هذا الرأسمال عديم النفع نظراً لاستحالة استخدامه كضمان، و لأنه يتألف من أملاك مشيدة على أراض ليس لها ملكية قانونية، و من اقتصاد ) السوق السوداء( الذي لا يدمج الأعمال التجارية، أو يخفي العمليات التجارية التي تدار بدون وثائق قانونية.
)يستحيل تحويل هذه الممتلكات بسرعة إلى رأسمال لأن حقوق ملكيتها ليست موثقة قانونياً بشكل كاف، و لا يمكن الاتجار بها خارج الدوائر المحلية الضيقة، حيث سيعرف الناس بعضهم بعضاً و يتبادلون الثقة فيما بينهم، كما لا يمكن استخدامها كحصة في الاستثمار(، كما يقول.

و بدون حقوق الملكية للأصول التي يملكها الفقراء، لا يستطيعون النجاة من أسر الفقر. أما إضفاء الشرعية القانونية على هذه الأصول و الممتلكات، فهو عملية مرهقة و متعبة إلى درجة تجعل من الصعب على معظم الناس القيام بها. ففي البيرو، مسقط رأس دي سوتو، يتطلب إضفاء الصفة القانونية على مشروع تجاري صغير تكاليف ضخمة، و يحتاج لمدة سنة تقريباً حتى بمساعدة فريق من الخبراء يعملون بدوام كامل. أما الحصول على ترخيص قانوني لبناء منزل على أرض مملوكة للدولة فيتطلب سبع سنين في البيرو، بينما يتطلب الحصول على ترخيص قانوني لبناء منزل على الأراضي الحضرية في الفيليبين مدة تتراوح بين 13 و 25 سنة. و يقدر عدد المصريين الذين يعيشون في مناطق السكن العشوائي (بدون تراخيص رسمية) بحوالي خمسة ملايين، كما يصعب كثيراً الحصول على ترخيص لبناء منزل في الأراضي الصحراوية التي تملكها الدولة.

إن تزويد الفقراء بالقدرة على الاستفادة من رأس المال أمر له جذور راسخة في النظرية الاقتصادية. فإعطاء حقوق الملكية بقوة القانون وفر القاعدة المؤسسة للتطور الاقتصادي في أمريكا خلال فترة الرواد الأوائل، في حين شكل غيابها عاملاً رئيساً في إخفاق روسيا اقتصادياً في فترة ما بعد الحرب الباردة. و من السهل معرفة السبب الذي جعل مارغريت تاتشر، التي عملت على بعث و إحياء الرأسمالية في بريطانيا عبر تمكين مزيد من الناس من تملك بيوتهم الخاصة و امتلاك الأسهم، تجد أفكاره مغرية و تستحق الاهتمام.

و لكن هل يجسد ذلك الحل الناجع لإخفاق الرأسمالية في معظم دول العالم؟
المعهد الذي أنشاه دي سوتو ظل يعمل لفترة مع حكومات البيرو، و مصر، و الفيليبين، و هايتي. الخطط التي وضعها مناسبة، لكن النتائج بطيئة، نظراً لأن مشكلة حقوق الملكية أكثر تعقيداً مما تبدو، فلكل حق قانوني بالتملك ادعاء مضاد واحد على أقل تقدير.

المؤسسات العالمية، مثل البنك الدولي، توافق على بعض آراء دي سوتو التشخيصية التي تؤكد أن غياب حقوق الملكية يمثل مشكلة فعلية، لكنها تشكك في إمكانية معالجة مشكلات العالم الثالث كلها من خلال هذا الحل الوحيد، لربما ستنتصر الرأسمالية على المستوى العالمي، لكن ذلك لن يحدث بين عشية و ضحاها.