مع تفاقم النزاع الأميركي- الإيراني، راح الكثير من الضوء يتركّز على روسيا: ما موقف موسكو الفعلي مما يجري؟
واستطراداً، هل تختار روسيا، حين يغدو الخيار ضيّقاً وعصيباً، إيران والإسلام الراديكالي أم تختار الولايات المتحدة والغرب؟ هذه الأسئلة زادتها احتداماً زيارة وفد من حركة "حماس" الفلسطينيّة إلى موسكو فيما كانت إسرائيل والعواصم الغربيّة تدقّان طبول الحرب احتجاجاً على فوز الحركة المذكورة في الانتخابات العامة في فلسطين. وطبعاً ظلّت العلاقات الروسيّة- السوريّة المزدهرة تقبع في خلفيّة الحيرة والتساؤلات في ما خصّ إدارة فلاديمير بوتين ونهجها.
فهل يمكن حقاً الخروج ببعض الخلاصات المفيدة في هذه المسألة التي لا يعوزها التعقيد وتضارب المصالح؟

لا بأس، بادئ ذي بدء، من الإشارة إلى أن التاريخ الروسي الحديث كله حكمه الصراع حول الموقف من الغرب والصلة به. وقد تبلور الصراع هذا في القرن التاسع عشر على شكل مدرستين، واحدة تقول بأوروبيّة روسيا الكاملة، والثانية تؤكد على الطابع السلافيّ للبلاد وعلى خصوصيّاتها الفلاحية والآسيوية والروحية، وطبعاً دور كنيستها الأرثوذكسية، تمايزاً عن الجيران الغربيين.
حتى الشيوعية البلشفية لم تبرأ من هذا الانقسام. فمع ثورة 1917 عُدّ لينين وتروتسكي في طليعة العاملين على تغريب روسيا وتسريع حركة التاريخ ثورياً في الاتجاه هذا. ولاحقاً بعدما ذوت الآمال بقيام ثورات اشتراكية في البلدان الأوروبية الصناعيّة تنجد الثورة الروسيّة، عادت السلافية والقومية تعبّران عن نفسيهما من خلال الستالينية ومن داخل أطرها وقاموسها وعزلتها في "بلد واحد".
وكما كانت الحال مع العهد الشيوعي، استمر الإشكال إياه بعد اندحارها. فقد اعتُبر ميخائيل غورباتشوف ومن بعده بوريس يلتسين تغريبيين يسعيان، كلٌ بطريقته، لا إلى مصالحة روسيا مع السياسات الغربية فحسب، بل أيضاً إلى مصالحتها مع طرق الحياة الغربية.

بيد أن حسابات فلاديمير بوتين، المهجوس بقوة بلده، اختلفت. فهو، بالطبع، ليس سلافياً قومياً من النوع العتيق، إلا أنه ممن لا يمانعون في استخدام النزعة هذه لتقوية موقع موسكو حيال جيرانها الغربيين.
وقد ترافق صعود بوتين مع جنوح السياسات الغربية نحو مزيد من التصلب والراديكاليّة، خصوصاً بُعيد جريمة سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. واتبع الرئيس الروسي في مواجهة المستجدّات الضخمة هذه سياسة وسطيّة تنهض على دعامتين:
 فمن جهة، هناك تصرف واقعي يسلّم بهزيمة بلده في الحرب الباردة وتفتت الاتحاد السوفيتي تالياً. كما يسلّم، استطراداً، بواحديّة القوة الأميركية على النطاق العالمي.
 ومن جهة أخرى، لا تستطيع موسكو أن تماشي واشنطن من دون تحفظ. وهكذا فهي لئن جمعتها بباريس وبرلين معارضة حرب العراق، فقد بقي أن أمرها مع الولايات المتحدة أشد تعقيداً وصعوبة. فالقوات الأميركية غدت، منذ حرب أفغانستان الأخيرة، موجودة في آسيا الوسطى بموافقة موسكو في البداية. وأهم من هذا وأبعد، من زاوية المصالح الروسيّة، أن الولايات المتحدة ومعها أوروبا الغربيّة تخوضان ضد روسيا "حرب" الديمقراطية وحقوق الإنسان على جبهات ثلاث:
أولاً، في روسيا نفسها حيث توجّه الانتقادات الحادّة لميول الكرملين الاستبدادية، خصوصاً في تعاطيه الاحتكاري والقمعي مع الإعلام والحريات الصحافيّة.

وثانياً، في الشيشان حيث لا تتوقف الانتقادات، وهي بدورها حادّة، حيال سياسات الأرض المحروقة كما تتبعها موسكو مع المتمردين.
وثالثاً، في أوكرانيا وبيلاروسيا وسائر البقعة الوسيطة بين أوروبا وروسيا حيث تُتهم الأخيرة بالهيمنة والتدخّل لكبح العملية الديمقراطية، وهو كبح يتخذ أحياناً شكل التهديد بالخنق الاقتصادي.
وما من شك في أن هذه المخاوف وجدت ما يعزّزها، في الأشهر القليلة الماضية، مع وصول أنجيلا ميركيل إلى مستشارية برلين بدلاً من غيرهارد شرودر الذي اعتُبر صديقاً لموسكو. وبالمعنى هذا، ظهرت تحليلات روسيّة عدة تؤكد على "تكامل خطة العزل والتطويق لروسيا بعد انضمام ألمانيا إليها".

وأمام وضع رجراج وحرج كهذا، وفّرت العائدات النفطية المتكاثرة في الخزائن الروسيّة أداة لتعزيز نفوذ موسكو وتمكين توجّهها المعاند لتمدد النفوذ الأميركي- الأوروبي. وإنما في النطاق هذا يندرج استخدامها علاقاتها بالعالم الإسلامي وقواه الراديكاليّة، خصوصاً إيران، ولكنْ أيضاً الموقع المعنويّ الذي تحتله لدى السوريين والفلسطينيين. فبهذه الأوراق جميعاً يمكن الالتفاف، كما يرى الروس، على الأحادية المطلقة، أو شبه المطلقة، التي أنتجتها نهاية الحرب الباردة.
بيد أن تحقيق الهدف الأخير هذا لن يكون، بحال من الأحوال، سهلاً. فإذا صحّ القول إن ذهاب الغرب في خط جذري ما يضع روسيا في موقع حرج، فإن ذهاب العالم الإسلامي في خط جذري آخر يزيد حراجة الموقع الروسي. ذاك أن فلاديمير بوتين لا يحتمل انقطاع شعرة معاوية بين "الغرب" و"الإسلام" ودقّ طبول "صراع الحضارات". إذ، بهذا، يخسر دوره الوسيط الذي يسعى إلى إنمائه وتعزيزه، ومن ثم إقناع الولايات المتحدة بأنه الوحيد الذي يستطيع أداءه. أما متى انقطعت الشعرة تلك، فقد انتفى الدور الروسي أصلاً. لهذا السبب لم يكتم الروس برمهم بلحظات التشنّج الإيرانية القصوى التي بدت معها طهران وكأنها تستعصي على محاولات التوسّط لبلوغ حلّ تعود ثماره على الروس. يُضاف إلى الصعوبة الإيرانية ذاك الجرح النازف دائماً في العلاقة الروسية- الإسلامية، أي مشكلة الشيشان. وهذه معطوفة على تجربتين مُرّتين أصغرهما ما شهدته الحرب اليوغوسلافيّة حيث وقف الروس يناصرون الصرب ممن يشاركونهم المعتقد الأرثوذكسي فيما المسلمون يؤيدون مسلمي البوسنة وكوسوفو. أما التجربة الأكبر فهي طبعاً أفغانستان. فهناك تأسس جهاد الإسلام الراديكالي بوصفه نشاطاً مناهضاً لموسكو بالتحالف مع واشنطن.

أما التاريخ فليس بالعنصر المشجّع إطلاقاً. فمسلمو روسيا ومسلمو آسيا الوسطى يملكون ذاكرة كئيبة جداً في ما خصّ العلاقة بالإمبراطورية القيصرية ومن بعدها الإمبراطورية السوفيتية.
والتاريخ ربما كان قابلاً لأن تُطوى صفحته لولا استحضاره الدائم والحار على يد الواقع الراهن. فبينما يتزايد عدد الروس المتأثرين بالحرب الشيشانية ممن يعتبرون الإسلام "الخطر الأكبر على هوّيتهم"، تتخذ العلاقة بُعدين جديدين غير مسبوقين، ديموغرافياً وإيديولوجياً. فعلى الصعيد الديموغرافي، وعلى ما يكتب "ين غانع"، يشكل المسلمون أكثرية السكان في 10 من أصل 89 وحدة فيدرالية روسية. وتبعاً للإحصاءات الرسمية، يؤلف المسلمون قرابة 5 في المئة من مجموع السكان، إلا أن التقديرات غير الرسمية ترفع النسبة إلى 15 في المئة، أو ما يزيد على 23 مليون نسمة. وقد أدى تفسّخ الاتحاد السوفيتي والنص الرسمي على الحريات الدينية واحترامها بعد طول كبت، إلى إطلاق نوع من الافتخار الديني- الإثني بهوية إسلامية جاء تعبيرها الأول عام 1999 مع إنشاء الحزب الراديكالي المسمى "حزب الحقيقة الإسلامي". ويضيف "كونستانتين إيغارت" أن شمال القوقاز عموماً، خصوصاً الشيشان وأنغوشيتيا وداغستان أضحى بيئة ناشطة في تفريخ التطرف الإسلامي.
أما على الصعيد الإيديولوجي، وكتتمةٍ منطقية لتعاظم الشعور بالهوية، فيلاحظ "ألكسي ملاشنكو" أن: "الإسلاميين قد أوجدوا انقساماً داخل الإسلام التقليدي"، فباشروا إدارة الظهر لهذا الأخير، ممثلاً في الحنفية والشافعية والطرق المألوفة في شمال القوقاز. وفي محلها بدأوا يُحلّون "الإسلام العربي" وهو الإسلام الذي يطلقونه على الممارسات الأشد تزمتاً. ويضيف الكاتب الروسي أن الصراع بين الإسلام التقليدي والإسلاميين لم يعد محصوراً جغرافيّاً. وغني عن القول، كما يلاحظ غير مراقب، أن حركة الهجرة إلى المدن لا تفعل غير توسيع نطاق هذين العاملين الديموغرافي والإيديولوجي وإظهارهما إلى العلن.

فكيف يتصرف فلاديمير بوتين وكيف يتململ بجسده الصعب بين الولايات المتحدة والإسلام الراديكالي؟