نصر شمالي

على مدى القرن الماضي حاولت حكومات جنوبية عديدة، منها حكومات عربية وإسلامية، إقامة تحالفات وتنظيم معاهدات مع دول الشمال، لكنها لم تحصد من وراء ذلك غير الريح والخراب، ووجدت نفسها بعد سنوات من التجربة وقد ازدادت بعداً عن هدفها، ألا وهو قبولها ولو عضواً ثانوياً في نادي الدول الصناعية الثرية! إن إقامة مثل هذه التحالفات يبدو كأنما هو ممكن للوهلة الأولى، لكنه سرعان ما يتكشّف عن مجرّد صفقة محدودة تجلب الكوارث لشعب الحكومة الجنوبية، ولأشقاء شعبها ولجيرانه! لقد خبر العرب والإيرانيون والأتراك والباكستانيون هذه الحقيقة الثابتة على مدى عشرات السنين الماضية وحتى يومنا هذا، ورغم ذلك نسمع اليوم من يتحدث عن دور إقليمي متميز لدولته، لا يتعارض مع مصالح نادي الأثرياء في الشمال، وخاصة إدارته الأميركية، بل يضمن هذه المصالح! فإذا كان الغرض من هكذا حديث هو المناورة والمداورة فإن هكذا مناورات ومداورات لا تحقق غير الاضطرابات والانكفاءات لأصحابها ولشعبهم ولأشقائه ولجيرانه!

إن من يحاول عقد صفقات على حساب فلسطين أو العراق، ولبنان أو السودان، وأفغانستان أو إيران، سوف لن يحصد، يقيناً، سوى الخيبة والندم، لماذا؟ لأن دول الشمال الاستعمارية ملتزمة استراتيجياً وتاريخياً بذلك القانون المطلق من قوانين الرأسمالية الربوية، وهو قانون التفاوت في النمو والتطور، الذي ينص على أن أمم الجنوب ليست حرة طليقة في تحقيق نموّها وتطوّرها إلا في الحدود التي يسمح بها وينظمها هذا القانون، وأن تجاوز الحدود المحدّدة يجعلها عرضة للعقوبات والحصار، والحرب والدمار!

* * *

لقد ذكرت مؤخراً صحيفة صنداي تلغراف البريطانية أن حكومة لندن سوف تعقد اجتماعاً مع كبار المسؤولين في وزارة الدفاع البريطانية (في 3/4/2006) للتباحث في احتمال توجيه ضربات جوية ضدّ إيران بهدف تدمير مفاعلاتها النووية، وللتباحث في احتمال ما يمكن أن ينجم عن العملية من انعكاسات ضدّ المصالح البريطانية، خاصة في العراق وأفغانستان، وبالطبع فإن الذنب الذي ارتكبته إيران، والذي يستوجب قصفها وتدميرها وقتل أهلها، سواء بالأسلحة الإسرائيلية أو البريطانية أو الأميركية أو غيرها، ليس سوى محاولتها الخروج على قانون التفاوت، علماً أن هناك من يزعم بأنه لولا تغاضي إيران لما نجح الأميركيون وحلفاؤهم في احتلال أفغانستان والعراق، فإذا كان الأمر كذلك وهو ما يصعب تصديقه فإننا نكون مرة أخرى أمام المثل الحيّ الذي يؤكد استحالة تعاون حكومة جنوبية مع دول الشمال الاستعمارية إلا على حساب شعبها وأشقائه وجيرانه!

تجدر الإشارة هنا، بينما نحن نتابع الاستعدادات لضرب إيران من أجل قطع الطريق على استكمالها لبرنامجها النووي، أن الشعب الفلسطيني لم يكن يفكر في إنشاء مفاعل نووي، لا حربي ولا سلمي، حين قررت العواصم الاستعمارية، وفي مقدمتها لندن وواشنطن، الاستيلاء على أرضه وتشريده وإبادته! وبأن احتلال العراق وتدميره وقتل مئات الألوف من أبنائه استند إلى ذرائع ثبت أن لا أساس لها من الصحة، ومع ذلك استمر الاحتلال والتدمير والقتل! وبأن حكومة مصر عقدت مع الأميركيين والإسرائيليين معاهدات سلام دائم وتعاون واسع النطاق، غير أن ذلك لم يوقف عمليات التآمر ضدّها، وافتعال الفتن بين أبناء شعبها الواحد الموحّد بهدف تقسيمها إلى ثلاث دول على الأقل!

* * *

إن فهم أية ظاهرة تاريخية معاشة، مثل ظاهرة نادي الدول الشمالية الثرية، يستدعي العودة إلى ظروف نشوئها وتتبع تطورها إلى أن بلغت ما هي عليه اليوم، فهذا النادي المتمثل بعدد من الأحلاف كحلف الأطلسي، وبعدد من الاتحادات كالاتحاد الأوروبي، يعود بجذوره إلى ذلك التكتل القديم الذي تشكلت نواته عام 1241، أي أثناء الحروب الفرنجية (الصليبية) وقد نهض حينئذ تحت اسم "اتحاد المدن التجارية"، أي اتحاد المدن/الدول الأوروبية التي كانت قائمة بالمئات! وقد استمرت عملية نموّ ذلك الاتحاد قروناً من الزمن، وفي حوالي منتصف الألف الميلادية الثانية أصبح يضم نحو أربع وستين مدينة/دولة أوروبية، فانتشرت فروعه ما بين نانت على اللوار ونوفجورود في أقصى الشمال الغربي الروسي، وتوفرت له جميع أسس الدولة ومؤسساتها، من جيوش برية وأساطيل بحرية، واعتمادات مالية، وسلطات اتحادية تسنّ القوانين وتبرم المعاهدات وتعلن الحرب. وغني عن القول أن ذلك الاتحاد، اتحاد المدن/الدول الأوروبية التجارية، كان مجتمعاً وراء السقوط النهائي للأندلس، ووراء ما يسمونه بالاكتشافات الأميركية والأفريقية والآسيوية، ووراء مجمل تلك الانقلابات العالمية الميدانية المحدّدة التي وقعت مابين العامين 1492-1521م، والتي نهض على أساسها العصر الأوروبي/الأميركي، كذلك غني عن القول أن ذلك الاتحاد القديم كان بدايات هذا الاتحاد الأوروبي الأميركي المعاصر، الذي تحقق عبر تطور متواصل متصاعد، وبلغ درجة الهيمنة العالمية مع اندماج المدن/الدول في كيانات سياسية كبيرة هي الدول الأوروبية التي نعرفها اليوم، وإنه لمفهوم أن هذه الدول المتحالفة المتحدة تواصل السهر على تطبيق استراتيجيتها التاريخية الاحتكارية التي يلخصها قانون التفاوت!

* * *

لقد تعامل قادة هذا العصر الأوروبي الأميركي (الشايلوكي) مع العرب والمسلمين باعتبارهم الأخطر على نظامهم العالمي غير العادل، القائم على قانون التفاوت في النمو والتطور، ونظروا إلى الأمة العربية خاصة باعتبارها تملك من القوى المعنوية الكامنة والمادية الظاهرة ما يهدّد سيادتهم العالمية، ولذلك نراهم يقدمون طوال الوقت على كل ما من شأنه حرمانها من امتلاك الشرط السياسي التاريخي الذي يمكّنها من النهوض ومن تجاوز كبوتها الطويلة، بل نراهم يحكمون عليها بالدمار الشامل، سواء أكانت حكوماتها معارضة أم موالية، وهكذا فإن العرب خصوصاً، وأمم الجنوب عموماً، يدفعون غالياً ثمن محاولاتهم التحرر من قانون التفاوت الاحتكاري المعمول به منذ خمسة قرون، والذي استنفد أغراضه وقواه، وأصبح على وشك فقدان فعاليته كما تشير الدلائل جميعها، وخاصة في فلسطين والعراق.