في ظل محاولات المنافقين و«الممانعين» والمرتزقة ـ من تجار الشعارات القومية ـ احتكار رايات العروبة، يبدو دعاة التغيير في العالم العربي وكأنهم قد أخذوا على حين غرة. كأنهم فوجئوا بقدرة هؤلاء المنافقين والمرتزقة على الدفاع عن مصالحهم... فتراجعوا أمام هجماتهم المرتدة... مرتبكين.

ربما تصوّر المثاليون من دعاة التغيير الهادف إلى بناء «الحكم الصالح» ـ أي الحكم القائم على احترام حقوق الإنسان والعدالة والمساواة، في ظل سلطة القانون وفصل السلطات ـ أن مهمة تحقيق التغيير ستكون أسهل إذا بدأت من حيز جغرافي أصغر، هو أي كيان من الكيانات العربية «المستقلة» الحالية. غير أن من توهموا سهولة تحقيق التغيير لمجرد أن الأنظمة المعنية باتت مفلسة أخلاقياً وإنسانياً وسياسياً واقتصادياً، أو لأن قوة عالمية كبرى عن لها أن تطلق مشروعاً يقلب الأمور باسم ترويج الديمقراطية، يكتشفون اليوم كم هي قوية غريزة الدفاع عن البقاء، وهي غريزة تزداد قوة وشراسة بالتناسب مع مستوى خوف الأنظمة وديكتاتوراتها من إرادة الشعب أو انتقامه.

لقد أضحى دعاة التغيير على بينة الآن من شراسة ردات الفعل التي يمكن أن تصدر عن أنظمة مفلسة محاصرة تقاتل على طريقة «عليّ وعلى أعدائي»... ووفق منطق «الأرض المحروقة»، متعاونة مع «حلفاء تكتيكيين» لا تجمعها بهم إلا المصلحة العابرة في مشاكسة العدو المشترك ورفع كلفة مواجهته لها بأمل إقناعه بمحاورتها.

وإذا كانت مجازر «الحلفاء» لا تفي بالغرض، فثمة خيار احتياطي مضمون النتائج... يتجسد باستنهاض همم «أوركسترات» منافقي العروبة المزيفة، التي لا يفهمونها ولا يريدونها إلا ديكتاتوريات أو بقرات حلوبة لهم ولأمثالهم، ليواجهوا المطالبين بـ«الحكم الصالح» بسيل من تهم «الانعزالية» أو «الكيانية» أو «التقسيمية»... ناهيك طبعاً من العمالة لأميركا.

أكيد، القوى العميلة والطفيلية والانعزالية المريضة والتقسيمية... موجودة في معظم كيانات العالم العربي. ولكن توجد أيضاً قوى تقدمية ووطنية تفهم أمراض مجتمعاتنا، وتطمح إلى التغيير واستعادة كرامة الإنسان العربي من دون أن يتحقق هدفها سيراً وراء الدبابات الأميركية.

هنا الإشكالية الصعبة.

فهذه القوى تجد نفسها بين نارين: نار أنظمة مستعدة دائماً لأن تكون مطية للغير... لكن هذا الغير ما عاد يريدها، ونار قوى كبرى لديها حساباتها الخاصة... التي قد تدفعها في أي لحظة للتضحية بمن يراهن عليها في لحظة يأس.

خلال الأسبوع الماضي قال زعيم وطني لبناني عبارة ممتازة، يجب النظر إليها على أنها تؤكد الحاجة إلى «قومية التغيير». فهو رأى أنه يستحيل بناء نظام ديمقراطي في بلد عربي بينما جاره الأكبر منه، الذي لا يكف عن التدخل في شؤونه، يحكمه نظام ديكتاتوري.

حقا، بهذا المنطق، يرتد الشعار القومي على مزوريه وسارقيه.

نعم، المطلوب تغيير على المستوى العربي، يتجاوز واقع التجزئة، وتشارك فيه تنسيقاً وتنفيذاً، القوى ذات المصلحة الحقيقية في التغيير. وهذه هي الخطوة الأولى في إنقاذ العروبة من براثن من يهينونها ويتاجرون بها ويتآمرون عليها ويشوهون جوهرها الإنساني التحرري.