منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق خلال الأعوام 1989-1991, تمتعت الولايات المتحدة الأميركية خلال عقد ونصف العقد من الزمان, بالسيادة المطلقة غير المتنازع عليها على العالم بأسره. وبعبارة أخرى فقد أصبحت القوة المهيمنة الوحيدة, أو كما يقال عنها "القوة العظمى" أو حتى "المفرطة" كما يفضل بعض المعلقين, تمييزاً لها عن بقية الدول الأقل منها شأناً. وفيما يبدو فقد بدأت أحداث العالم كله وشؤونه, تدور بشكل أو آخر حول واشنطن, منذ إسدال الستار على عالم الثنائية القطبية. وفيما نذكر فقد تحدث الرئيس بوش في شهر سبتمبر من عام 2002, عما وصفه بـ"قوة أميركا وتأثيرها الذي لا ينازع" متعهداً باستخدام تلك القوة والتأثير في مواجهة الأنظمة السياسية الداعمة للإرهاب, إلى جانب نشر وتمديد قيم الحرية والتقدم إلى الشعوب والدول التي تفتقر إليها. والسؤال: هل في وسع أي قيادي أميركي إلقاء خطاب كهذا اليوم وانتزاع ثقة الناس به؟ أثير هذا السؤال وفي البال أن أنماط القوة الدولية, تعتريها تغيرات جد سريعة ومذهلة. ومن فرط سرعة التغيرات, فإنه يتعذر اليوم على أي كان, الادعاء بأن الولايات المتحدة لا تزال تنفرد بسيادتها وهيمنتها على العالم, أو أنها قادرة على فرض إرادتها عليه, رغم ميزانيتها الدفاعية الضخمة البالغة نحو 500 مليار دولار!

والحقيقة أن ما نراه الآن, هو صورة مارد أميركي جبار, يزداد عجزه يوماً إثر يوم عن فرض نفوذه القيادي أو الاجتراء على الخوض في الكثير جداً من التحديات التي تحيط به وتأتيه من كل جانب. فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً –إن لم يكن من حيث القوة العسكرية- فقد برزت الصين منافساً لا يرقى إليه الشك لأميركا. فبفضل مزجها الفريد ما بين الرأسمالية الحرة والقيود السياسية الصارمة, وبفضل وفرة عمالتها الرخيصة عالية الإنتاج في ذات الوقت, وبسبب انفتاح شهيتها للطاقة والمواد الخام, مضافاً إليه ارتفاع مستوى تعليمها التقني, وسيطرتها على أسواق التصدير العالمية, تمكنت الصين من تحويل نفسها إلى قوة اقتصادية مرموقة بين دول العالم, تتمتع بمعدل نمو سنوي يصل إلى نسبة 9 في المئة.

ثم هناك روسيا بوتين, التي تمكنت من استعادة قسط كبير من عافيتها الاقتصادية, مدفوعة في ذلك بعائدات النفط والغاز الطبيعي الكبيرة التي حققتها. وقد تمكنت بفضل تلك المزايا, من أن تجعل من نفسها مصدراً أساسياً للطاقة بالنسبة للقارة الأوروبية. أما في منطقة آسيا الوسطى, فها نحن نراها تعمل جاهدة من أجل قهر النفوذ الأميركي ورده إلى حدوده التقليدية التي كان عليها من قبل, في حين يزداد تحديها للهيمنة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط, وذلك بحرصها على إقامة وتعزيز علاقات الصداقة الودية مع عدد من الدول والمنظمات التي تواجه الآن ضغوطاً متصاعدة عليها من قبل واشنطن, مثلما هو حال إيران وسوريا, ثم حكومة "حماس" التي انضمت إلى القائمة مؤخراً, ولا تزال واشنطن تعتبرها "منظمة إرهابية" على رغم انتخابها ديمقراطياً وشرعياً. كما تواجه الولايات المتحدة معارضة قوية من عدة دول من أميركا اللاتينية, منها فنزويلا والبرازيل, تتمرد جميعها وباستمرار على الهيمنة الأميركية.

غير أن التحدي الأكثر تربصاً بأميركا إنما يأتيها من قوى أصغر نسبياً, تتمثل في مجموعات المتمردين وبعض اللاعبين غير الحكوميين. ونحن في غنى عن التذكير بالضربة الموجعة التي وجهها التمرد العراقي إلى وحدات الجيش الأميركي المرابطة هناك. وفيما لو استمرت هذه الحرب, فليس مستبعداً أن يمرغ أنف واشنطن في الوحل, ويلحق بها عار عسكري, ليس أقل من ذلك الذي تجرعته في فيتنام سابقاً. كما بدا واضحاً عزم إيران على المضي قدماً في تخصيب اليورانيوم , متحدية بذلك تهديدات بضربها عسكرياً من قبل كل من واشنطن وحليفتها تل أبيب. وفي ترديد منها لبعض أصداء حقبة الحرب الباردة, تتكئ طهران اليوم على ظهر كل من الصين وروسيا, ضد أي عقوبات دولية أو أي ضربة عسكرية ربما توجه إليها. وعليه يبدو أكثر وضوحاً، اليوم تلو الآخر, أن السبيل الوحيد لحل هذه الأزمة, هو التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران, بحيث تتوفر ضمانات كافية لطهران بعدم تعرضها لأي ضربة عسكرية, فضلاً عن الاعتراف بدورها وأهميتها الإقليمية.

ثم هناك سوريا التي بقيت على عنادها وتحديها للضغوط الأميركية والفرنسية الممارسة عليها, بهدف إرغامها على تصفية أي وجود أو تأثير لها في لبنان. وعلى رغم انسحاب الجيش السوري, إلا أنه لا تزال لدمشق معاقل نفوذ ملحوظ ومصالح استراتيجية حيوية هناك, فضلاً عن تمتعها بتحالفات قوية في لبنان. ومثلما نجحت سوريا في تدمير الاتفاق الإسرائيلي- اللبناني الذي أبرم بين الطرفين في السابع عشر من مايو 1983, علماً بأنه الاتفاق الذي قصد منه وضع لبنان تحت النفوذ الإسرائيلي, فإن دمشق تغزل على المنوال ذاته اليوم, وإن اختلفت الطرائق والأساليب.

نخلص إذن إلى أن تحول أنماط القوى الذي نعنيه, إنما يتمثل في تمرد عدد من الدول الصغيرة والتنظيمات المتمردة, على القوتين الأميركية والإسرائيلية. من ذلك مثلاً نجاح "حزب الله" في طرد إسرائيل من لبنان في عام 2000 بعد مضي 22 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي. ومن جانبها تكشر حركة "حماس" عن أنيابها ضد أية ضغوط أميركية- إسرائيلية تهدف إلى تدميرها ومنعها من تولي قيادة الفلسطينيين وحكمهم.

أما في أفغانستان, فها هي قوات حركة "طالبان" تعيد تجميع وترتيب صفوفها, بما يمثل تحدياً سافراً للقوة الأميركية وغيرها, التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار هناك. وبين هذا وذاك يواصل تنظيم "القاعدة" تهديداته التي لا تنقطع للولايات المتحدة وحلفائها, على نحو ما رأينا الأسبوع الماضي, في سلسلة من الخطب النارية الدموية التي ألقاها أبرز قادة التنظيم. وعلى الرغم من نجاح دولة قطر في استضافة القيادة العسكرية للقوات الأميركية في الشرق الأوسط, إلا أن في الدولة ذاتها, قناة "الجزيرة" التلفزيونية, التي تمارس تمردها هي الأخرى على واشنطن, من خلال بثها المستمر للتقارير الإخبارية التي تغطي أنشطة جماعات العنف والتطرف المعادية لأميركا.