هل يعني ضمنيا الجدل الجاري عن الأقليات وعن حقوقها في البلدان العربية وجود من يتوهم أن الأكثرية أو الأكثريات -إن سلمنا بوجودها- تتمتع بحقوق ما؟ لنعترف ابتداءً أن سؤالنا هذا ليس بريئا بل يستهدف بداهة إعادة لفت الأنظار إلى أنه مهما كان المعيار أو المعايير التي يمكن أن نستدعي لتصنيف الأقليات والأكثريات في الدول العربية، ومهما كانت المشروعية النظرية والمعقولية السياسية للحديث عن الأقلية مفردةً أو جمعا فمن العسير الحديث عن حقوق أقليات معينة في مقابل حقوق أكثريات معينة ما دامت الدول العربية المعاصرة ممارسة وفعلا هي بالأساس دول امتيازات لا دول حقوق. وهي من ثم دول تسود كليا رعاياها وليست دولا تعبر ولو جزئيا عن سيادة مواطنيها. ففي موازاة ميزان الإرادات الاجتماعية المتنافسة “دالت” وتردّت الدول العربية المابعد استعمارية وجثمت على صدور مجتمعاتها كمحض إفصاح حسابي عن ميزان قوى ثنائية الداخل الخارج. وهو ما جعل الدولة العربية الحالية أساسا دولة الردع السلطوي من دون أن تعبر ولو مجازا عن أي مستوى من مستويات شرعية الإرادة الجماعية. لم تتطابق معا الشخصية الفردية للأوتوقراط والشخصية الاعتبارية للحكم فحسب وإنما تطابقتا أيضا مع الشخصية الاعتبارية للدولة وهو ما ألغى جذريا كل المعاني الممكنة للسيادة كمصدر لشرعية الدولة. ولذلك لم يعد للحديث عن السيادة في الخطاب الرسمي لأي دولة عربية إلا دور بلاغي محض. عمليا لا تعني السيادة كما تُستنفر دعائيا سوى الاحتكار الأوتوقراطي لكل الامتيازات ولإمكانية منحها لهؤلاء وسحبها من أولئك، أي أن الحديث الرائج عربيا عن السيادة هو فعليا حديث عن عكس دلالتها الحصرية. الدولة العربية المعاصرة لا تعترف بالمواطن لا كموضوع لحقوق وواجبات ولا كفاعل يمثل مصدرا أول للشرعية المفترضة للحكم وإنما تراه كرعية وتابع للسلطة أي كموضوع لممارسة هذه الأخيرة يخضع لها ويترجى إرادتها بمقتضى ما تتمتع به من وسائل محتكرة أي بمقتضى احتكار الحكم الأحادي للريع والبطش أي امتلاكه لآلية الترغيب والترهيب كامتياز مطلق. إنها إذن دولة القوة -الامتياز وليست دولة الحق- المواطنة.

لنتذكر هنا أن خلفية هذا الواقع تتشكل من مستويين متداخلين، أولهما أن الدولة العربية المابعد استعمارية بحدودها الجغرافية والمؤسسية وفي بناها الفوقية ليست محصلة صراع - تطور داخلي، والثاني أن ثمة انفصالا شديد العمق للنخب الموروثة عن الدينامية الداخلية لواقع مجتمعاتها وعجز اللغة الصنمية لتلك النخب عن البوح بتعقيد الواقع المعني بل قدرة هذه الأخيرة على حجبه وتقنيعه. نفهم إذ ذاك معنى الدور الذي افتُرض أن مؤسسات الكيانات السياسية المابعد استعمارية ستلعبه لخلق جسم اجتماعي قادر على التماهي معها لانتشالها من فوقية الدولة الكومبرادورية المسوغة حصرا بمعاهدات القوى الكبرى وبالمشروعية القانونية التي تؤسسها توازنات ونصوص تلك المعاهدات. مثل هذا الدور يكشف عن وعي ما -مبهم أو غامض- بتلك الفجوة المؤسسة التي تفصل الدولة العربية المابعد استعمارية عن قاعدتها البشرية. وهو ما سيعني في جزء غير يسير من أدبيات المرحلة أن وحدة الأولى تقتضي حتما توحيد الثانية.

لنتساءل إذن عن الفرق الأكثر مركزية بين الدولة المابعد استعمارية والدولة الأوروبية كما وظّفت مرجعيا. الواقع أن جدلية الدولة - الأمة، التي كانت في صميم تكون الفضاءات السياسية الأوروبية الحديثة وبغض النظر عن حيثيات ظهور الدولة الأوروبية كفاعل أصل صاغ الأمة أو العكس، تكشِف أن الدولة القومية تكونت أوروبيا عبر ثوراتها الصناعية - العملية والسياسية - العلمية وصراعاتها وحروبها الأهلية والقومية من دون أن تكون أوروبا ضحية لتحد خارجي، أجنبي على القارة أو على جزئها الغربي بالأخص، يفرض هيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية فاعلة، بينما تكونت أغلب دول العالم الثالث، كما كان يقال خلال الحرب الباردة، أو أغلب دول الجنوب كما يقال حاليا، في ظل هيمنة شاملة هي أولى الإفرازات التاريخية للحداثة الأوروبية بكل جوانبها النظرية والعملية. بمعنى آخر وُلدت الدولة - الأمة في زمنها الأوجي ووفق جغرافيتها السياسية الخاصة وبمقتضى مفرداتها ومرجعيتها الذاتية بينما وُلدت الدول العربية والمابعد استعمارية، بصيغة أعم، في انفصال وانفصام عن زمن قاعدتها الاجتماعية المفترضة، وُلدت كصورة بلا مادة تنتمي إلى زمن فوقي يمثل انفصاما وانكسارا يهدم وحدة زمن القاعدة الاجتماعية ومن ثم وُلدت في انفصال وصراع مع مجتمعاتها. فجاءت في أبرز ملامحها دولة الخارج أكثر مما هي دولة الداخل ومن ثم فهي في أطرها ونماذجها وحدودها دولة الخارج لا دولة الداخل.

السؤال التلقائي هو، لماذا لم تستطع الدولة القطرية العربية الحديثة في ظل فشل قيام الدولة الوحدوية الجامعة أن تحقق طموحها بما هي، بمعنى أو بآخر، كيان اعتباري قائم لتصبح دولة - أمة تتجاوز الهويات الجزئية القبلية والعرقية والطائفية؟ الواقع أن الدولة القطرية لم تفشل فقط في ردم الهوة بين مفرداتها وأنماطها الصورية من جهة والواقع الذي تتنزل عليه من جهة ثانية كما لم تعان فقط من أن مجموع مكوناتها المؤسسية وُلدت قسريا وبشكل عشوائي يستجيب لمطالب الخارج لا لحقائق الداخل، بل إنها استكناها لكل ذلك ظلّت عاجزة عن تجاوز إحداثياتها الأولية أي ظلّت رهينة صوريتها كمجرد آلية فوقية تحكم شعبا وتسيطر على أرض. إنها ظلت إذن دولةً - نظاما تعيش فوق الجسم الاجتماعي وعلى حسابه، تنمو خارجه وفي مواجهة دامية معه. ومن ثم ستأوي كل الأنظمة لتعويض هذا العجز إلى نهجي البلاغة الشعبوية وموازين الامتيازات.

وطبيعي أن البلاغة الشعبوية ستظهر أكثر لدى الأنظمة التي تسمّت بالجمهورية أو ما ماثلها. غير أنها لم تكن عمليا أقل من غيرها اعتمادا لموازين الامتيازات رغم آليتها الدعائية التبنيجية. كل الأنظمة العربية “سادت” و”ساست” “المجتمع” لا كشعب يشكله مجموع المواطنين بل منظور إليه كفسيفساء تجاورية من المجموعات القبلية أو الإثنية أو المذهبية أو من سائرها جملة. ومن ثم ستصبح التحالفات والتوازنات العشائرية والطائفية الداخلية والخارجية في صلب العلاقة التي تربط الدولة بالجسم الاجتماعي المتفكك أو المفكك إلى هويات جزئية أو المشكل منها مُلاصَقَةً. وطبيعي أن الفئات الأكثر مغايرة من حيث خصوصياتها الثقافية أو الدينية أو المذهبية ستكون الأكثر شعورا أو وعيا بهشاشة ووهن التوازنات المبنية على مثل هذه الامتيازات وأن تكون إذ ذاك الأكثر تخوفا و”احتياطا”. وهو ما سيعني أن الخصوصيات الأقلوية الأكثر مغايرة ستجعل من ذويها بحسب الحالات والظروف إما المستفيدين بامتياز أو الضحايا بامتياز. وطبيعي كذلك أن تبقى الانتماءات والولاءات الصغيرة هي القاعدة في التعامل داخل الفضاء العام وأن تزداد مركزيتها كلما ازدادت بوليسية وكليانية السلطة الأوتوقراطية. من هنا يمكننا أن نخلص إلى أن الفرق الأساسي بين ما يمكن أن نسميه بالكليانة العربية والنموذج الكلياني الذي راج الحديث عنه منذ ثلاثية الفيلسوفة حنا ارندت هو أن الدولة - النظام، ككيان كومبرادوري معلق فوق “الأمة”، هي دولة غير قادرة على دمج الجسم الاجتماعي أو الاندماج فيه ولكنها على العكس تشرّحه وتدخل في تحالفات استفرادية مع أجزائه المفككة.