بما أنني كنت في شرق أوروبا, وبالتحديد في العاصمة المجرية بودابست, وذلك عقب التحذير الذي وجهه ديك تشيني نائب الرئيس بوش بشأن استخدام روسيا لصادراتها من النفط والغاز كأداة للترهيب والابتزاز السياسي, فقد لمستُ أصداءه وتأثيراته واضحة هناك. وضمن ذلك لاحظت صحيفة "فاينانشيال تايمز" أن الصحافة الروسية عكست تلك التصريحات المنسوبة إلى تشيني, وكأنها أصداء لحديث رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "ونستون تشرشل" عام 1946, عندما حذر من أن "ستاراً حديدياً" كان ينسدل من موسكو على القارة الأوروبية. لكن من رأيي الشخصي أن العالم لا يتقهقر مرة أخرى إلى الوراء أو إلى حرب باردة جديدة. ذلك أنا تركنا عالم الحرب الباردة وراءنا, وها نحن على وشك الولوج إلى عالم ما بعد بعد الحرب الباردة. وما أعلمه أن الأميركيين لن يروقهم هذا العالم الجديد, ما لم تشمر بلادهم عن ساعد الجد فيما يتعلق بسياسات طاقتها.

وكما نعلم، كان عالم الحرب الباردة عالماً من نسيج الثنائية القطبية, وقد أرسى دعائم استقراره توازن نووي دقيق بين القوتين العظميين وقتئذ. أما عالم ما بعد الحرب الباردة فهو موسم ازدهار القوة الأميركية المفرطة –على حد وصف الفرنسيين- حيث فرضت فيه واشنطن هيمنتها على العالم بأسره اقتصادياً واستراتيجياً, بينما تشكلت سماته الرئيسية بالتوسع الهائل للأسواق الحرة والانتخاب الحر للحكومات.

وعلى نقيض ذلك تماماً, فإن عالم ما بعد بعد الحرب الباردة الذي أعنيه, هو عالم متعدد الأقطاب والقوى الدولية, تخضع فيه القوة الأميركية للرقابة والمراجعة المستمرة من مختلف أركان العالم وأنحائه. وفي هذا العالم الجديد تبرز الصين كقوة دولية كبيرة ذات شأن ووزن, بفضل كدحها في العمل وارتفاع مدخراتها. وفيما وراء الصين بدأت تبرز قوى جديدة بفعل ارتفاع أسعار النفط العالمي, وهي القوى التي كانت تمر بمرحلة أفول في عالم ما بعد الحرب الباردة. ومن بين هذه القوى الجديدة, روسيا بوتين التي تناطح الولايات المتحدة وتنازلها في عدة جبهات.

وهناك فنزويلا شافيز التي بدأت تلعب في عالم ما بعد بعد الحرب الباردة, دور كوبا فيديل كاسترو في ثياب جديدة, وذلك من خلال قيادتها لموجة جديدة من تأميم الشركات والمؤسسات, علاوة على نشرها لنزعة معادية لأميركا في منطقة أميركا اللاتينية. وبالطبع هناك إيران التي بدأت بإبراز عضلاتها النفطية وتحدي العالم على طريق تحولها النووي. ولاشك أن عالماً بلغت فيه أسعار النفط 70 دولاراً عن البرميل الواحد, هو عالم متعدد القوى بحق. إنه "محور النفط" على حد قول مايكل ماندلباوم مؤلف كتاب "مسألة جوليات" الذي وصفه بأنه محور أكثر أهمية واستدامة من خطر الإرهاب, ملاحظاً في الوقت ذاته عدم وجود أي استراتيجية أميركية للتصدي له. ويتسم هذا العالم الجديد ليس باستقواء وتطاول بعض القوى النفطية فحسب, وإنما بكون أميركا لم تعد مهابة ولا مخيفة كما كانت من قبل. وأصبحت هذه الأخيرة من الخور والضعف والهزال –بسبب نزيفها المستمر في العراق, وبسبب الانحسار المريع لشعبية الرئيس بوش في أوروبا, ثم بسبب انقسامها الثنائي الحزبي على نفسها -إلى حد لم تعد فيه قادرة على الاستجابة حتى لصغرى الأزمات, مثلما هي أزمة الطاقة الماثلة الآن.

وكما لاحظ "إريك فراي", محرر صحيفة "دير ستاندارد" الأسترالية, فقد كان الجميع يتحدثون عن القوة المفرطة الأميركية خلال عامي 2002-2003. غير أنه ما من أحد يأتي على ذكر القوة العظمى الأميركية اليوم, وقد أضاف هذا التجاهل بحد ذاته, بعداً جديداً للعداء لأميركا. وفي المقابل فقد لفت البروز الجديد لدولة مثل روسيا, اهتمام الجزء الشرقي من أوروبا. وليس أدل على ذلك من استيراد المجر لأكثر من نصف حاجتها من الغاز الطبيعي من روسيا. واليوم فقد شرع بعض المجريين يرددون نكتة قديمة من نكات الحرب الباردة, قيل فيها إنه وعلى إثر انتصار المجر على فريق كرة القدم السوفييتي, بعث الكريملن بمذكرة إلى القادة المجريين جاء فيها: هنيئاً لكم انتصاركم الذي حققتموه... ولكن قولوا وداعاً للنفط, وداعاً للغاز!

وعلى حد قول "بال ريتي", محرر المجلة الاقتصادية المجرية, فإن روسيا لم تعد لها تلك الأيديولوجيا ولا الجيش السوفييتي الذي كان لها يوماً ما, غير أن لها ما يكفي من النفط ومن النزعة الوحشية, لترهيب جيرانها الأوروبيين. والملاحظ هنا أن أوروبا عالم ما بعد بعد الحرب الباردة, أضحت غير قادرة على التوحد حول أي شيء تقريباً, حتى وإن كان ذلك سياسات طاقتها. ولهذا السبب فإن في وسع روسيا التضييق عليها وخنقها.

وعلى ذلك علق "لاجوس بوكروس" أستاذ الاقتصاد بجامعة أوروبا الوسطى في بودابست بقوله: المشكلة أن عدداً كبيراً من الدول الأوروبية ليس تنافسياً بما يكفي. وما لم تختر أوروبا نمط النمو العالي الذي اتسمت به أيرلندا –على نقيض نمط الاقتصاد الألماني والإيطالي والفرنسي- فإن مصيرها الاضمحلال, ومغادرة حلبة اللعبة الاقتصادية العالمية برمتها.

ولهذه الأسباب مجتمعة, تجدني على أحر الشوق لعالم ما بعد الحرب الباردة, وليس لحقبة الحرب الباردة. فما أشد وطأة فوضى عالم ما بعد بعد الحرب الباردة, ما أصعب مراسه وإدارته, وما أكثر أثرياءه الجدد, الذين يكونون ثرواتهم ليس عن طريق بناء المجتمعات الديمقراطية اللائقة, وإنما بمجرد حفرهم للمزيد من آبار النفط.