نصر شمالي

ليس غريباً في هذه الحقبة التي يقودها خلفاء رونالد ريغان ومارغريت تاتشر واليهود الصهاينة أن تتحول النمسا، وعاصمتها الساحرة فيينا، إلى دولة عبور رئيسة لتجار الرقيق، الذين يسوقون قوافل النساء والأطفال بالملايين إلى أسواق العمل القسري والتعاطي الجنسي، ففيها تلتقي قوافل السلع البشرية القادمة من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق ومن بلدان شرق آسيا، حيث يجري توجيهها باتجاه الغرب، والغرب الأقصى، وباتجاه الجنوب، والجنوب الأدنى!

غير أن نشرة مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، التي صدرت مؤخراً وتضمنت هذه الأخبار، لم ينقل عنها ما يتعلق بتجارة المخدرات التي هي الركن الأساسي من أركان الجريمة، لأن الإعلام المسيطر عليه عموماً من قبل المجرمين يتعمد تضليل الرأي العام وتحييده وتعطيل فعاليته في مواجهة مثل هذه القضايا الخطيرة على حياته، واستكمالاً لما أوردناه في مقالة سابقة نتابع فنقول أن عهد جورج بوش الأب، الذي تلا عهد رونالد ريغان، أمعن في بلورة النظام الدولي النيوليبرالي القائم بالفعل على قطاعات الجريمة بمعناها العادي، التي ارتقت قياداتها إلى مستوى القيادات السياسية الحكومية!

لقد تفجرت في أوائل عهد الرئيس جورج بوش الأب، خليفة ريغان، أزمة دولة بنما التي انتهت بأسر رئيسها عمانوئيل نورييغا، وبنقله مخفوراً إلى الولايات المتحدة وإيداعه أحد سجونها، وإسدال ستائر سميكة من التجاهل لقضيته والتكتم على مصيره! لقد اتهم نورييغا من قبل إدارة بوش الأب بالتلاعب بالانتخابات الديمقراطية في بلده، واتهم أيضاً بالاتجار بالمخدرات وبتوظيف أموالها في المعركة الانتخابية! غير أن بوش تعرض بدوره لتهمة الاتجار بالمخدرات، أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية، على لسان منافسه الديمقراطي دوكاكيس! وتجدر الإشارة إلى أن نورييغا كان صديقاً حميماً لبوش الأب منذ مطلع الثمانينات، حيث كان بوش مديراً لوكالة المخابرات المركزية ثم نائباً للرئيس، وكان نورييغا أيضاً مديراً للمخابرات البنمية، وله القول الفصل في السياسات العليا لبلاده، فهل يعقل أن بوش الأب اكتشف حقيقة صديقه نورييغا متأخراً بعد أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة، أم أن هناك أسباباً أخرى لموقفه من صديقه القديم؟

لقد عبّر نورييغا أثناء الأزمة، قبل احتلال بلاده واعتقاله وإبادة أنصاره، عن انزعاجه من المعاملة المفاجئة التي يعامله بها صديقه القديم، وخلال ردود فعله العنيفة أشار إلى ما يشبه الخيانة للصداقة والمصالح المشتركة! وجدير بالذكر أن بنما هي مجرد قاعدة أميركية، ولا بد أن صلة الرجلين ببعضهما كانت قديمة ووثيقة، فهل اكتشف بوش الأب فجأة نقائص وعيوب زميله القديم، تاجر المخدرات وصاحب مئات ملايين الدولارات القذرة؟

ليست بنما سوى جزءاً من كولومبيا فصله الأميركيون لضمان سيطرتهم على حلقة الوصل المائية الصناعية بين المحيطين، وليست كولومبيا المجاورة سوى حقلاً دولياً للمخدرات، ربما يعادل حقول النفط من حيث عائداته الأسطورية، وتدور في كولومبيا طوال الوقت حرب ضروس واسعة النطاق، تأخذ شكل حرب أهلية، كما لو أنها صراع اجتماعي طبقي رهيب بين الأيدي العاملة في حقول المخدرات وبين أسيادها من كبار التجار المهيمنين على حقول الإنتاج وأسواق الاستهلاك، وإنه ليبدو كما لو أن العمليات الحربية تهدف إلى إخضاع عمال المخدرات الفقراء المقهورين لصالح كبار الأثرياء، الذين يحظون بدعم إدارات النظام الدولي، بدعم رؤساء أجهزة المخابرات، ونواب رؤساء الدول، بل رؤساء الدول أيضاً! ولعل هدف هذه الحرب المفتوحة هو ضبط أسواق المخدرات والسيطرة على حقولها، وليس حرق المخدرات واستئصال جذورها، مثلما حرب النفط هدفها ضبط أسواقه والسيطرة على منابعه، وليس حرق النفط!
***
في عهد الرئيس جورج بوش الأب، وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية، قال جيري كوموروس نائب مدير غرفة مكافحة المخدرات التشيكية ما يلي: "يمكننا القول أن جمهورية التشيك تحولت من بلد عبور للمخدرات إلى مركز إقليمي لتوزيعها، حيث صار العرض يفوق الطلب، وقد اختارت العصابات جمهورية التشيك لفتح فرع شمالي لطريق البلقان، لأن الحرب المستمرة في يوغوسلافيا جعلت تهريب المخدرات من هناك مستحيلاً، وهذه العصابات مسلحة تسليحاً جيداً، وتتكون من محترفين، ومن منظور رجل الشرطة يمكنني القول أن درجة الخطر ارتفعت إلى نسبة 1000%، حيث الغرام الواحد من الهيرويين يباع في حانة "فورمانكا" وسط براغ بمبلغ 1000 كراون، أي 35 دولاراً، بينما يباع في فيينا عاصمة النمسا، على بعد 310 كيلومترات فقط، بمبلغ 1200 شلن، أي 110 دولارات"! وهكذا نفهم من أقوال هذا المسؤول التشيكي أن الحياة في البلد المحرر من الاشتراكية أصبحت أفضل بالمعايير الرأسمالية الليبرالية، أفضل من الحياة حتى في النمسا الرأسمالية الليبرالية المزدهرة أصلاً، بدليل فارق سعر الهيرويين لصالح الشعب التشيكي الذي أصبح حراً!

منذ عام 1994 بدا كأنما نبؤة المستشار الألماني هلموت كول، التي أعلنها قبل عامين، قد بدأت تتحقق حيث إحدى عشرة دولة أوروبية صارت طرفاً في سوق المخدرات وتجارتها، أي أن العصابات صارت شريكة في السلطات، وقد تذرعت الحكومات الأوروبية لتبرير إجراءاتها برفع الحظر عن استهلاك المخدرات بقضية "الحرية الشخصية" وبأن الفرد حر في استهلاك ما يشاء مادام اختار ذلك حتى وإن كان ما يتعاطاه ضاراً! لكن هذه الذرائع لا تصمد أمام ما عرضه المستشار كول عن الهدف الرئيس للمافيات، وهو السيطرة على السلطة السياسية والاقتصادية، كما أنها ليست كافية لحجب الأنظار عن دور الأميركيين في إطلاق الليبرالية المتوحشة التي تقدس النجاح والثراء ولو تحقق بأحط السبل الإجرامية!
***
لقد انتشرت صناعة المخدرات عالمياً بسرعة هائلة انطلاقاً من العهد الريغاني/التاتشري، وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، ففي أوروبا الغربية كانت بلجيكا وهولندا وألمانيا سباقة في هذا الميدان، وكانت على رأس الدول التي رعت هذه الصناعة وأسواقها في وقت مبكر، وجاءت بوليفيا كرائدة في مقدمة بلدان أميركا اللاتينية، وفي آسيا كانت تايلاند وبرز لبنان، وقد دخلت هذه الصناعة الفظيعة في صلب نشاطات الشركات الدولية المتعددة الجنسيات، ابتداءً بإنتاجها وانتهاء بتسويقه، حيث انعدمت الحدود الوطنية والقومية لصالح النيوليبرالية، وحيث تداخل ما هو رسمي في ما هو غير رسمي، بل أصبح بالإمكان القول أن هذه التجارة حظيت بالاهتمام والرعاية على صعيد أعلى مراكز السياسة الدولية، فكأنما هي أهم ميادين التطبيق العملي لليبرالية الجدية التي أطلقها العهد الريغاني/التاتشري!
www.snurl.com/375h