عندما انفك عقد اللقاء الماروني في الارز، جاء من <يعترف> الى البطريرك نصرالله صفير، ويقول أن <الحركة بقيت من دون بركة>، وأهم ما في الاجتماع، كان انعقاده، في حين أن النتائج <بقيت أمنيات> لأن أحدا غير قادر على إخراج موضوع الرئاسة من أمام الحائط المسدود، ولا حتى إخراج البلاد من الحلقة المفرغة>، لأن القرار ليس هنا، وإذا ما توافر بعضه، فإن التنفيذ مستحيل، لأنه يبقى بحاجة الى رافعة خارجيّة، غير متوافرة الآن>.

وعندما <انتصرت> الاكثرية، في مجلس النواب، بإقرار القانونين المردودين من قبل رئيس الجمهورية، (تنظيم أوقاف الطائفة الدرزيّة، والمجلس الدستوري)، جاء من يخبر البطريرك، ب<الانتصار الساحق> الذي تحقق، ولكنه، والكلام على ذمة ناقليه، فرك يديه كعادته، وصمت قبل أن يجيب معبّرا عن امتعاضه، <لأن هذه الكيديّة في الممارسات، والتصرفات، لا تزيد من تهميش موقع رئاسة الجمهورية فحسب، بل تسهم في تعميق الشرخ الحاصل في البلاد، من دون أي فائدة، وأي مردود لأي طرف؟!>.

ثمة رابط بين اجتماع الارز وما حصل في مجلس النواب، وثمة رابط ايضا بين الكلام الذي صدر للمرة الأولى من باريس على لسان البطريرك صفير حول الخشية من الاستغناء عن موقع الرئاسة الاولى <مع الوقت> وبين ما سبقه من كلام اميركي في واشنطن امام الرئيس فؤاد السنيورة بدعم دوره <في قيادة لبنان>.

ولعل هذا الأمر يلحظه سيد بكركي في اللقاءات التي تجمعه بالسفراء الاجانب في بيروت، وتحديدا سفراء الدول الكبرى، ممن لم يعد موضوع رئاسة الجمهورية على لسانهم الا من زاوية الإشارة إلى الأزمة التي يشكلها استمرار الرئيس اميل لحود في موقعه، بينما هم ماضون في قرارهم بمقاطعة رئيس الجمهورية وعدم الاعتراف به في سابقة لا مثيل لها، خاصة في ظل استمرار التفويض المطلق المعطى لزعيم تيار المستقبل النائب سعد الحريري بادارة الملف اللبناني.

بهذا المعنى، يقول المتابعون، بأن زيارة البطريرك الماروني تتميز بخصوصيتها. كان بطريرك موارنة لبنان تاريخيا موضع إحترام، وصاحب رأي راجح، ومسموع في الوسط الفرنسي، ولكن النظرة، خلال ولاية الرئيس جاك شيراك، كانت مختلفة، ذلك انه كان ينظر الى بكركي، كمرجعية وطنية داعمة لمشروع كبير، للبنان ما بعد الحرب، عنوانه صديقه التاريخي الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
وتاتي زيارة صفير، وفق قراءة بعض العارفين، وسط ظروف مختلفة في لبنان وفرنسا على حد سواء. فالرئيس الفرنسي يواجه اوضاعا هي الاصعب في تاريخ ولايته الرئاسية وثمة من يقول بانه لن يخرج منها بسهولة خلال ما تبقى من شهور ولاية تنتهي في ربيع العام .2007 ايضا يفتقد شيراك لمرجعية لبنانية وعربية طالما اعتمد عليها، اسمها رفيق الحريري.

وبين 14 آذار 2005 ومنتصف ايار ,2006 مساحة ظلت خلالها الساحة اللبنانية في مربع التأزيم، <بلد منقسم على نفسه، الى تيارين، ومنطقين، وحجتين، ومرجعيتين. وطاولة حوار لم تنتج تفاهما بعد، حول كل المواضيع المطروحة على بساط البحث، وما تمّ التفاهم بشأنه، يتعذر وضعه موضع التنفيذ. ورئيس للجمهورية، مقاطع من قبل الاكثرية، ولكنه صامد في بعبدا. وشلل ملحوظ يدبّ في معظم المؤسسات. وتحديات ماليّة، واقتصاديّة صعبة، وسط دوران في الحلقة المفرغة؟!>.
ليس المهم الحديث عن ظروف زيارة البطريرك الى باريس، والمناسبة التي أوجبتها، المهم إنها حصلت، وكانت ضروريّة للطرفين معا، ذلك ان البطريرك قلق من التهميش الذي أصاب موقع الرئاسة الاولى، ودورها، حيث رئاسة الحكومة تحاول ان تكون هي المحور، ونقطة الارتكاز على مستوى السلطة التنفيذيّة، وتدير أوسع شبكة من الاتصالات، مع الخارج، من خلال بناء جسور العلاقات، وتمتين أواصر الصداقة مع العديد من زعماء الدول الفاعلة. فيما رئاسة الجمهورية، معزولة، ومقاطعة من غالبيّة الدول، او مهمّشة، بشكل لم يعد يشكل خطرا على التوازنات الداخليّة، إنما يشكل عرفا، لا يمكن القبول به، وهذا ما أشار اليه صراحة، عندما رفع الصوت مؤخرا، منبها من الاستئثار بالسلطة، وبالوظائف؟!.

وليس هذا وحده ما يشغل بكركي. ما يشغلها أيضا، هو انعدام الوزن على صعيد الداخل، فهناك حوار لا ينتج، وإذا ما أنتج، فإنه غير قابل للتنفيذ، وهناك انقسام خطير، حتى أصبح <اللبنان> لبنانين، الاول له امتداداته السوريّة الايرانيّة، والثاني، إرتباطاته، وامتداداته العربية الاوروبيّة الاميركيّة، وكأن عربة الوطن أصبحت بين حصانين كلّ منهما يشدّها بإتجاه معاكس.
وما يشغل بكركي أيضا، ان عامل الوقت، قد أصبح عنصرا غير مؤات، ومصالح اللبنانيين الوطنية بالدرجة الاولى، والاقتصادية المعيشيّة، بدليل أنه لايؤشر الى أي تغيير مرتقب، سوى الاسترسال وسط الدوامة. وتأتي المواعيد، وتمر الاستحقاقات، والبلد على مزيد من التقوقع والانقسام، فيما المعالجات تكاد ان تكون مشلولة، إن على مستوى الداخل، او الخارج، ذلك ان دول الرعاية <لانتفاضة الاستقلال>، لم تأت إلا بالنصح، والتوجيه، والارشاد، وبالكثير من القرارات الدوليّة التي تبقى حبرا على ورق تماما كما هي حال مقررات مؤتمر الحوار الوطني!.

وبقدر ما يقلق عامل الوقت سيد بكركي، يقلق أيضا سيّد الاليزيه، ولعل هذا العامل، بالاضافة الى مجموعة من العوامل الاخرى، دفعت بالرئيس شيراك ان يغيّر من نظرته، ومن أسلوبه في التعاطي مع البطريرك كمرجعية وطنية وكعنوان كبير بالنسبة الى مسيحيي الشرق الذين عادوا على ما يبدو الى قاموس الاليزيه، خاصة، بعد غياب الرئيس <المارد>، والصديق الوفي، حيث تحرص فرنسا على الاستماع الى هواجس صفير، وتطلعاته، خصوصا في مقاربته لموضوع رئاسة الجمهوريّة، وكيفية الخروج من هذه الحلقة. وأيضا من موقع تاكيد حرص فرنسا على مكانة هذه الرئاسة في لبنان، ودورها الحيوي، وذلك لقطع الطريق على اي هاجس قد يتسلل الى قناعات البعض، من ان فرنسا تريد تهميش دور الرئاسة الاولى، لمصلحة رئاسة الحكومة، وهو اعتقاد بدأ يترسخ شيئا فشيئا في بعض الاوساط المارونيّة، <حيث مرت مرحلة طويلة كانت لا ترى فيها فرنسا شيراك من لبنان، إلا الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والبقية الباقية، تأتي تاليا في تراتبية الاهتمامات، والمقامات؟!.
وسط هذه الاجواء، والتراكمات، لا تعول المصادر، الكثير على الزيارة من حيث النتائج الفوريّة، والعمليّة، لكنها في الوقت نفسه، تريد أن تعترف <بشيء هام، وهو أن الزيارة ليست بروتوكوليّة، ولا المحادثات كانت من باب المجاملة، بل هناك جدول من المقترحات التي تتراوح بين ما هو محلي داخلي، وما هو إقليمي دولي>.