كانت لجيلي علاقتان عفويتان مع الثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية. لكن ما أن نالت الجزائر الاستقلال حتى تضاءلت علاقتنا معها. فقد كان هناك البعد الجغرافي وغياب التبادل وإغلاق الجزائر بإحكام بعد تسلم جبهة التحرير الحكم. أما القضية الفلسطينية فلم تكن علاقتنا بها روحية فقط ولا قومية فقط. بل تحولت بالنسبة لنا إلى قضية شخصية بسبب الصداقات وبسبب بؤس الوجود الفلسطيني في لبنان على مقربة من بيوتنا ومطل من شرفاتنا.

وصارت السيرة الشخصية الفلسطينية جزءاً من سيرنا الحياتية. وقد توثقت علاقتنا بالقضية نفسها حتى الارتباط أو القسم، بسبب من صداقات غزيرة تفاوت شأنها في مسار القضية لكنه لم يقل. وكان كمال ناصر أول فلسطيني شعرت بغيابه كصديق ورفيق وليس كسياسي أو مقاوم. وبالنسبة إلي لم يقتل ايهود باراك بيده مناضلاً فلسطينياً ثم يمدده على شكل مصلوب كرسالة لمسيحيي العمل الوطني، بل قتل صديقاً ظريفاً ضاحكاً، كان يمر بنا في «النهار» كل مساء، هو وكلوفيس مقصود، فيلقي نكاته الساخرة من الجميع أو يسمعنا شيئاً من قصائده الساخرة من نفسه، أو من عشقه. وعندما استشهد دخلت المرأة التي أحبها الدير. ولا تزال. فقدت أمس صديقاً آخر كان يحمل في صدره اثر الرصاصة التي أصيب بها العام 1947. ولم تكن تلك معركة عبد العزيز الشخاشير الأولى ولا الأخيرة. وإذا كان الجهاد جهاد النفس فقد ظل مجاهداً حتى النفس الأخير. وبكل ما أعطي وما أوتي. وعندما نعته جمعية المرأة العربية في لندن إنما كان هذا نعياً علنياً من كثرة من النعي الصامت. وهناك أحياء كثيرة في بيروت لم أكن أجرؤ على دخولها، وكان مجرد ذكرها في الحرب يثير الفزع. لكنني ذهبت برفقة عبد العزيز (أبو أكرم، أو أبو الأكارم للأصدقاء) إلى حي اللجا الذائع الصيت لأنه أراد أن يرى بنفسه احتياجات الفقراء والمعوقين. ومعه أيضا كنا نذهب إلى المخيمات التي لا تقوى عين على مشاهدها وعلى فظاظة بؤسها. وإضافة إلى كل عمل فردي كانت هناك مساهماته الركنية في «مؤسسة التعاون» في جنيف، التي تضم كبار الخيرين الفلسطينيين وشجعان العمل الإنساني الوطني الذي يحجم عنه الجبناء والمقترون.

كان عبد العزيز الشخاشير يأمل، حتى وهو في سنوات مرضه، بالعودة إلى القدس التي خرج منها إلى معتقلات العالم العربي. لكنه عندما شاهد «حماس» و«فتح» تتقاتلان همس إلى صديق بما بقي له من قوة: لقد انتهت فلسطين. انظر ماذا يفعلون! ثم غاب.