نشأت ظاهرة «بيانات المطالب السياسية» في السعودية مع وصول طلائع القوات الدولية لتحرير دولة الكويت من جيش صدام حسين. في تلك الفترة وقف رموز ما يسمى بـ «الصحوة الاسلامية» ضد القرار التاريخي الذي اتخذه الملك فهد بن عبدالعزيز بالموافقة على مشاركة الجيوش الاجنبية في الحرب. وجد هؤلاء في اصدار البيانات وحشد التواقيع وسيلة لاظهار رفض المجتمع للقرار واستطراداً للتوجهات السياسية للدولة. ورغم ان تلك البيانات تعد مخالفة للقوانين، وتتعارض مع المصلحة العليا للبلاد، فضلأ عن انها تخالف توجهات السواد الاعظم من الناس الذين شعروا بالارتياح الى ذلك القرار، الا ان الجهات الرسمية تعاملت معها بسعة صدر، ولم تتخذ اي اجراء امني ضد أحد، رغم انه كان بالامكان استغلال «ظروف الحرب» وملاحقة هؤلاء وسجنهم. لم يحدث هذا، وهو أمر يحسب للنظام السياسي، بصرف النظر عن الاسباب.

بعضهم فسر صمت الحكومة بالضعف، فتمادى في اصدار بيانات حادة ونزقة، وتطاول على نصف المجتمع الى درجة يصعب وصفها. والعجيب اليوم ان بعض هؤلاء الصحويين اصبح يرفع شعار «افعل ولا حرج»، فتخلى عن نزقه، ونقل خطابه من التحريض والسياسة الى قضايا الحب واهمية زواج المسيار، فصار نجماً تلفزيونياً بامتياز. أما في تلك الفترة فكان من اشد المنافسين لحشد تواقيع من مختلف مناطق المملكة لمواجهة قرار الدولة بالحرب، واستثمار تلك الظروف لوضع البلد في مأزق سياسي وامني. لكن موقف الحكومة الهادئ ازاء تلك البيانات فوّت الفرصة، وهو موقف له أسباب ابرزها ان المؤسسة الدينية كانت مع القرار، بل ان مفتي البلاد في تلك الفترة الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، اعتبر الجنود الغربيين الذين يموتون في المعركة بمنزلة الشهداء. ولهذا تعاملت الحكومة مع تلك البيانات بالاهمال، ونظرت اليها باعتبارها نزقاً سياسياً عابراً يمكن تجاوزه بعد ان تضع الحرب اوزارها. لكن الايام اثبتت ان هذا غير صحيح.

صمت الحكومة حيال الصحويين، خلال فترة حرب الخليج، شجع بالمقابل عدداً كبيراً من المثقفين على استثمار ظاهرة البيانات، فتحركوا من جانبهم للتعبير عن مطالب مثل حرية التعبير وعمل المرأة وانتخابات مجلس الشورى، والمجالس البلدية، واوضاع التعليم، والبطالة، والاصلاح الاداري والسياسي الى ما هنالك... وخلال وقت قصير اصبح من الصعب التمييز بين بيانات الليبراليين لكثرتها وتعدد مطالبها. صار لكل شلة بيان وموقف. في تلك الفترة عاشت البلد مناخاً صحياً وجديداً عليها. خرجت مطالب النخب من الطرفين الى العلن. عرفنا للمرة الاولى الرأي والرأي الاخر. لكن الغريب ان صمت الحكومة تبدل حيال بيانات المثقفين، وتغيرت درجة الصمت التي رأيناها مع بيانات الصحويين. صار الصمت مصحوباً ببعض «النحنحة»، و»الحوقلة»، وكانت الحكومة تقول في سرها «حتى المثقفين صاروا يعرفون مناصحة ولاة الامر»، مع ان موقف المثقفين، او من يسمون بالليبراليين كان مع تأييد قرار الحكومة في قضية القوات الاجنبية، وكانت بياناتهم لا تتضمن اي مطالب تتعارض مع شرعية الدولة، كما كانت البيانات الاخرى تفعل. لكن الحكومة لم تقابل بياناتهم بالارتياح، اخذ على خاطرها ممن يتحدث عن اصلاح التعليم والادارة الحكومية وزيادة فرص عمل المرأة... الغريب والمثير في آن أن أحداً من الصحويين السعوديين لم يتنبه الى هذه المفارقة. لا أحد يشير الى ان القيادة السياسية في السعودية تتصرف بحرج واضح مع من يرفع شعاراً اسلامياً، وتتعامل معه على طريقة «ويلي منك وويلي عليك» حتى لو كان يسعى الى التشكيك بشرعيتها. لهذا الحرج اسباب عاطفية وتاريخية ليس المجال هنا لسردها، لكن احداً منهم، فضلاً عن غيرهم، لم يعترف بأن النظام السياسي في السعودية كان ولا يزال يتعامل مع تحركات وبيانات الصحويين باعتبارها من المناصحة لولاة الامر، وهو مبدأ تقرّه الدولة بحكم تكوينها الاسلامي. وكان آخر تلك البيانات صدر قبل ايام ووقع عليه 61 شخصاً من المحسوبين على سلك التعليم الديني، وتضمن اتهامات خطيرة، وافتقد الحكمة واتسم بلغة حادة.

لا شك في ان بيانات المطالب السياسية هي الحد الادنى لحرية التعبير، وموقف الحكومة السعودية المتسامح منها مؤشر الى الانفتاح والقبول بحرية الرأي الاخر، لكن المفارقة ان من لا يعرف السعودية جيداً سيعتقد ان توجهات اصحاب هذا البيان والبيانات السابقة لا تجد دعماً في السعودية ولهذا تتوالى، مع ان العكس هو الصحيح. فبعض اصحاب هذه البيانات يستأثر بمساحة واسعة في وسائل الاعلام على عكس المثقفين الليبراليين، وهذه من الاسباب التي تعطي لبياناتهم أهمية اكبر من حجمها، وتنقلها من صفة السجال والحوار الى ما هو ابعد من ذلك. ولذا فإن اعطاء فرص متساوية للجميع سيضع هذه البيانات في حجمها الطبيعي، ويعطي للمجتمع فرصة للفرز والاختيار، ويوقف تلك المقالات التي تتناول هذه البيانات وكأنها مؤامرة دولية، وغارات بالقنابل النووية، مع انها لا تعدو كونها رأياً لـ61 مواطناً في بلد تعداده 20 مليون انسان، لكن لأنها الوحيدة في الساحة صارت قضية.