نصر شمالي

بحفاوة هادئة وقورة ناطقة بصمت، وبنجاح تنظيمي ملفت ومحترم، احتضنت هيئات المجتمع المدني المغربي الدورة السنوية السابعة عشر للمؤتمر القومي العربي، بعد أن رحبت الحكومة المغربية بانعقاده في الدار البيضاء خلال الفترة 5-8 أيار/ مايو 2006، بينما قامت الهيئات المغربية المدنية غير الحكومية بمعظم واجبات الضيافة لأكثر من ثلاثمائة مشارك قدموا من جميع الأقاليم ومن معظم الدول العربية والأجنبية.

إن المؤتمر، وهو هيئة عامة مستقلة، يعاني غالباً من أجل الحصول على موافقة الحكومات العربية لعقد دورته السنوية في إحدى العواصم، وهو احتياطاً وضع في حساباته منذ تأسيسه الانعقاد في دولة أجنبية حال استحالة انعقاده في البلاد العربية، غير أن ذلك لم يحدث حتى الآن لحسن الحظ! كما أنه يعاني من صعوبة تأمين تكاليف الدورة السنوية، مع أن عدداً كبيراً من أعضائه يتحملون نفقات السفر على حسابهم الخاص، بل ونفقات الإقامة أيضاً عندما لا تتوفر الاستضافة!

المراوحة على طريق المرجعية!
لقد تأسس المؤتمر القومي العربي قبل أكثر من سبعة عشر عاماً في سياق مبادرة قومية إنسانية، غير حكومية، أخذت على عاتقها العمل على توحيد صفوف الأمة، وبلورة مشروع عربي حضاري إنساني، وتطوير المؤتمر إلى مرجعية عامة. وفي اتجاهه التوحيدي تسجّل له مأثرة المبادرة لجسر الهوة بين التيارين القومي والإسلامي، وتأسيس المؤتمر الآخر الذي جمعهما، وكذلك تأسيس مخيم الشباب العربي السنوي.

وقد نصت أنظمة المؤتمر على أن المشاركين ينتسبون إليه بصفاتهم الشخصية، من دون أن يستثني ذلك الحزبيين أو يشترط تخليهم عن صفاتهم العامة الأخرى، فالمؤتمر ينبثق من الحياة العربية العامة المعاشة بكل تلاوينها وتفاصيلها، وهو بالطبع بحاجة إلى الخبرات الحزبية الميدانية، ولكن مع التمييز بحزم بين طبيعة مهام الحزبيين كأعضاء في المؤتمر وبين طبيعة مهامهم الميدانية في أحزابهم وفي أقطارهم، فالمؤتمر يتطلع إلى التبلور كمرجعية عربية عامة، وإذا ما قدّر لمثل هذه المرجعية أن تنهض فمن المفترض أن تكون متكاملة مع العمل السياسي الميداني اليومي لجميع الأحزاب في جميع أقطارهم، مع بقائه عملاً من اختصاص الأحزاب وليس من اختصاص المؤتمر/ المرجعية.
غير أن المؤتمر القومي العربي، بعد سبعة عشر دورة سنوية، لم يحقق تقدماً يستحق الذكر في اتجاه تبلوره كمرجعية، فقد برزت الروح الحزبية أكثر فأكثر بتمايزاتها، ممتنعة إلى حدّ كبير عن الانصهار في بوتقته، بل لقد نقلت بعض الأحزاب تناقضاتها وصراعاتها إلى داخله، الأمر الذي بدا جلياً في الدورات الانتخابية، والذي كان أكثر وضوحاً في دورة الدار البيضاء الأخيرة!
ما هي مهمة المؤتمر الأولى؟

لقد استمع المؤتمر في دورته السابعة عشر إلى مداخلات هامة تتفق مع طبيعته ومع تطلعه إلى موقع المرجعية، وأصغى المشاركون إصغاء جيداً، غير أن الإصغاء المهذب لا يعني دائماً الاقتناع، ولا يتحول بالضرورة إلى قرارات وبرامج عملية، وبالفعل كانت السيادة للخطابات الحزبية التي عبّرت عن فاعليتها عملياً في جلسة الانتخابات، في الكواليس، وفي إعداد القوائم، وفي عمليات تأمين الأصوات على أسس حزبية، فكان ذلك مخيباً للآمال لأنه يتعارض مع التوجه نحو بلورة مرجعية قومية عامة، ويفقد المؤتمر مبرر وجوده.
وكنت قد أعددت مذكرة حول حال المؤتمر، قدمتها في اجتماع الأمانة العامة المنعقد في بيروت بتاريخ 12-13/9/2003، ذكّرت زملائي عبرها أن مهمة المؤتمر هي إعادة اكتشاف الأمة وإعادة اكتشاف العالم، وأن ذلك لا يعني الاستغراق المنعزل في الأبحاث النظرية والفقهية والآثارية، بل يعني الإعداد لبيان تاريخي سياسي يوحّد رؤية الأمة لتاريخها ومستقبلها ولتاريخ العالم ومستقبله، ويجدّد وسائلها وأهدافها ببعديهما القومي والأممي، كما فعل المفكرون الأوروبيون العظام في القرن التاسع عشر، حيث أعدّوا البيان الشيوعي الذي تضمن اكتشافهم وصياغتهم لتاريخ العالم وتاريخ أممهم، فغدت تلك الوثيقة أساساً متيناً لبرامج سياسية وحركات تحررية غطت الأرض من أقصاها إلى أقصاها على مدى قرن ونصف من الزمن. قلت في مذكرتي: إن إنجاز مثل هذا النموذج، وليس مضمونه بالضبط الذي يخضع بدوره للمراجعة، هو ما نحن بأمس الحاجة إليه، وهو ما يفترض أن يكون مهمة المؤتمر الأولى، خاصة وأن الأنكلوأميركان واليهود الصهاينة فعلوا ذلك من أجل تحقيق أغراض خبيثة ظالمة، فوحّدوا رؤية شعوبهم ومواقفها بناء على دراسات وبيانات ملفقة!
مؤتمر قومي أم مؤتمر أحزاب؟

اليوم، بعد أكثر من سبعة عشر عاماً مضت على تأسيس المؤتمر القومي العربي، أتساءل بأسى عما إذا كان المؤتمر قادراً على الخروج من الإشكالية التي دخل فيها والعودة إلى النقطة المركزية التي انطلق منها، وأفكر أن هذا يقتضي تحديد مهماته ووظائفه الإستراتيجية التاريخية والتقيد بها بحزم، ويقتضي إعادة النظر في بنيته المتراجعة نوعياً، باستقطاب المفكرين المستقلين عقولاً وإرادات ( وإن كان بعضهم حزبياً) وتكليفهم بلورة هذه المهام والوظائف بصورة تجعل الصلة وثيقة بين الجهد الفكري المنظم وبين دورات المؤتمر السنوية من جهة وبين الأحزاب والفصائل الميدانية وجماهيرها في مختلف الأقطار العربية من جهة أخرى.

لقد أعطت دورة الدار البيضاء صورة مشرقة عن الإمكانات العربية الجبارة الكامنة، سواء في الجهد التحضيري الناجح الذي بذله إخوتنا المغاربة، وأذكر نيابة عنهم جميعاً الأخ العزيز الأستاذ خالد السفياني الأمين العام الجديد للمؤتمر، أم في الجلسات المنظمة وما تخللها من أوراق ومداخلات هامة، غير أن هذا كله، كما أوضحت، يبقى بعيداً عن طبيعة المؤتمر وطبيعة مهامه، فمثل هذه النشاطات الهامة يمكن أن يحدث مثلها تماماً في مؤتمر الأحزاب العربية، بل لعله هو ما يحدث بالضبط، وبالتالي لماذا نكرر أعمال مؤتمر الأحزاب تحت عنوان المؤتمر القومي العربي؟ لماذا لا نترك هذه المهمة لمؤتمر الأحزاب وحده، إذا لم يكن المؤتمر القومي العربي مميزاً عنه بمهامه ووظائفه وتكوينه عموماً؟ لماذا تبديد الجهد، وإضاعة الوقت، ومضاعفة النفقات؟!
www.snurl.com/375h