ارتبط العمل الفلسطيني على مدى نصف قرن بأسماء «الصياغة الثلاثة»، الدكاترة فايز ويوسف وأنيس. وقد ذهبوا محاضرين في مشارق الأرض ومغاربها. وخصوصا في أميركا. وقال لي زميل أصغي إلى فايز صايغ في جامعة مونتريال: «خرجت وأنا لا اعرف إذا كان قد اقنع الكنديين أم انه قد سحرهم».

أنيس، أصغر الدكاترة والصياغة الثلاثة، أسس وأدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وكانت إسرائيل تعتبر أن العقل اشد خطرا من الرصاص. ولذلك حاولت نسف المؤسسة واغتيال عقلها. ونجا أنيس صايغ فاقدا 80% من بصره وبعض يديه. وخرج من المستشفى فورا إلى مكتبه المحترق في المؤسسة، التي أفاخر بأنني أديت فيها عملا طوعيا زهيدا ذات مرحلة، خصوصا بعدما انضم محمود درويش إليها نائبا للدكتور صايغ. اكتشف يوسف صايغ بعد نجاته أن ثمة خصما شديدا له: ياسر عرفات. فهو لا يحبه. ولا يطيق فيه اكاديميته. ولا استقلاليته. وحاول رئيس منظمة التحرير أن يفرض بعض خلصائه على المؤسسة فأخفق. وحجب عنها المال، ولم يؤد ذلك إلى شيء. وحضر مرة إلى مكان فرأى يوسف صايغ وأنيس، فصافح يوسف وأدار ظهره لأنيس كأن لا وجود له. وفي النهاية استقال الصياغي الاصغر وانصرف إلى مهمة أخرى: جعل من نفسه مؤسسة فلسطينية قائمة بنفسها.

عندما دعاني قبل عامين لإلقاء محاضرة في نادي خريجي الجامعة الأميركية، شعرت بغبطة واعتزاز. فلم أكن قابلته من قبل. وكان «للصياغة الثلاثة» في نفسي تقدير عميق، بالإضافة إلى شقيقهم الرابع، توفيق، الذي كانت له مرتبة شديدة العلو في الاكاديميا والأدب، ولو انه لم يحسن الشعر، وأساءت إليه طهارته في بعض الخيارات المدمرة. ذهبت إلى قاعة المحاضرات فتقدم مني أنيس صايغ قائلا: «لقد عرفتك من صوتك. لم يبق في نظري الكثير بعد ذلك الانفجار اللعين».

كان «الصياغة الثلاثة» من ثلاثة منابت: سورية ولبنان وفلسطين. وعندما بلغ غضب أبو عمار من أنيس صايغ مبلغه صار يقول عنه «هذا سوري وليس فلسطينيا». وفي كتابه الصادر الآن «أنيس صايغ عن أنيس صايغ (1)» والواقع في 500 صفحة، يروي في فصل مفصل، وفي أمانة وتواضع أهل العلم، قصة الصراع الصامت بين زعيم المنظمة وهو في ذروة قوته، وبين أكاديمي متواضع بدأ حياته صحافيا في «النهار» مع مدير تحرير أسطوري يدعى لويس الحاج. وكان لويس الحاج يشرف على الجريدة ويكتب افتتاحياتها ويكتب رسائل القراء ثم يكتب الرسائل التي يهاجم بها مقالاته. وغالبا بقسوة شديدة.

«أنيس صايغ عن أنيس صايغ» عنوان يفتقر إلى الدقة. انه في الحقيقة أنيس صايغ عن حقبة طويلة وحافلة من تاريخ المنطقة، منذ بدايات الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى ما نحن فيه الآن: ميليشيات حماس وفتح!