اختيار مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت اليمنية على ساحل بحر العرب لعقد الاجتماع الـ17 لمجلس التنسيق السعودي - اليمني لا يخلو من دلالة سياسية، حتى وان قيل انه لا اهداف سياسية او خفايا مستترة وراء الاختيار. فمدينة المكلا تقع في الجزء الذي كان يسميه اليمنيون «الشطر الجنوبي» ويعرفه السعوديون بـ «اليمن الجنوبي»، واختيار هذه المدينة الجميلة للتوقيع على الخرائط النهائية لاتفاقية الحدود بين السعودية واليمن يعني ان الرياض ممثلة بولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز تدعم اليمن الموحد، وسعيدة بنجاح وحدة اليمن، ويعني أن البلدين قررا تجاوز كل التاريخ الذي خلفته مرحلة «التشطير»، فعكر صفو العلاقات على مدى أكثر من نصف قرن، فضلاً عن ان ترحيب الأمير سلطان بفكرة توقيع الورقة الأخيرة في اتفاقية الحدود مع اليمن في مدينة تقع على الطرف الآخر من الحدود اليمنية يعني ببساطة أن السعودية تمارس قناعاتها السياسية، وجادة في خلق شراكة سياسية واقتصادية مع اليمنيين.

نتائج زيارة الأمير سلطان لليمن بدلالاتها الرمزية والمباشرة لم تقتصر على كسر حاجز الحديث عن التاريخ المتوتر بين البلدين، والنظر إليه باعتباره ماضياً، ولم تقف عند تأثير المشروعات التي جرى افتتاحها أو الاتفاق على استكمالها، أو إعطاء رجال الأعمال السعوديين من أصول يمنية، وللمرة الأولى، دوراً فاعلاً في تطوير العلاقة بين البلدين ورسم معالمها. الزيارة تجاوزت كل هذا، على أهميته، فأعلنت عن تدشين مرحلة جديدة من العلاقات السعودية - اليمنية أساسها مراعاة المصالح، واعتماد العامل الاقتصادي في تشكيل وتحريك العلاقة بينهما. ومن يقرأ تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين على مدى ستة عقود يجد أن لغة المصالح كانت على هامش هذه العلاقة، وان العامل الاقتصادي كان مجرد اداة، أو إكرامية لمعالجة الأزمات السياسية، وتطييب الخواطر. كان أشبه بمخرج للطوارئ، فإذا تأزم الموقف تم الحديث عن تقديم دعم هنا، وإرسال مساعدة عاجلة الى هناك لوقف تدهور العلاقات السياسية، التي شهدت فترات من التوتر والقطيعة بسبب تهميش المصالح الاقتصادية. لم يكن وسيلة السياسة ولا غايتها، كان خارج الحساب. فخسر البلدان كثيراً من وراء إهمال مبدأ المصالح الاقتصادية.

من الإنصاف هنا القول إن السعودية لم تكن راغبة في إغفال مبدأ المصالح في علاقاتها مع اليمن، فهي أرادت لمجلس التنسيق منذ البداية أن يلعب دوراً اقتصادياً ويربط البلدين بمنظومة من المصالح الاقتصادية وصولاً إلى تعاون كامل، وكانت على الدوام تريد أن يستثمر اليمن قربه من اكبر دولة مصدرة للنفط ومالكة لاحتياطيه في العالم، وداعمة للاستقرار في المنطقة، وأن يستفيد من مجاورته لأكبر وحدة اقتصادية في العالم العربي. كانت السعودية تعمل على قاعدة أن استقرار اليمن ونموه وازدهاره ينعكس إيجاباً على استقرارها ونموها. فإذا كان جارك بخير فأنت بألف خير. لكن الثقافة السياسية السائدة في اليمن حالت دون ذلك. كان اليمن على الدوام مشدوداً لمرحلة سياسية تستبدل الشعارات بالمصالح، وفشلت حكومات اليمن المتعاقبة في خلق شراكة حقيقية مع الرياض، ودفع الشعب اليمني الثمن. والنتيجة أن اليمنيين خسروا فرصة عظيمة للتنمية الاقتصادية خلال مرحلة الطفرة النفطية في السبعينات من القرن الماضي، وخرجت بلادهم من منظومة مجلس التعاون لأنها لم تكن وقت نشأة المجلس منتمية الى دوله سياسياً واقتصادياً رغم قربها. كان اليمن يتحدث بلغة لا يفهمها أهل الخليج، ففاته قطار المجلس. خسر مقعده في أهم رحلة شهدتها منطقة الخليج. فكانت خسارة أهل الخليج من غياب اليمن عن مجلسهم مضاعفة.

لا شك في أن معاهدة جدة التي تعد من أبرز الانجازات السياسية للملك عبدالله بن عبدالعزيز خلقت واقعاً سياسياً جديداً. فهذه المعاهدة نزعت فتيل توتر استمر أكثر من ستة عقود، وسمحت للطرفين السعودي واليمني بالانعتاق من فكر الأزمة وتدخل الآخرين، فاستبدل البلدان البناء بالترميم، والحوار بالقطيعة، وخلقت المعاهدة لدى اليمنيين والسعوديين حماسة لمبدأ المصالح والمضي في بناء شراكة اقتصادية. فضلاً عن أن هذه المعاهدة فتحت الباب واسعاً أمام دخول اليمن إلى مجلس التعاون. فقبل معاهدة جدة لم يكن في استطاعة المجلس استقبال عضو محمل بمشكلة بهذا الحجم، اما اليوم فيمكن القول ان العد التنازلي لجلوس اليمن على المقعد السابع في مجلس التعاون قد بدأ، وليس هذا من باب التمني، فتصريحا الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وطرح الموضوع على مجلس الشورى السعودي لإعطائه بعداً شعبياً يشير بوضوح إلى ان الرياض أصبحت حريصة أكثر من أي وقت مضى على انضمام اليمن الى مجلس التعاون، لكن الرغبة السعودية ستواجه معارضة خليجية، وهذه المعارضة مفهومة ووجيهة في بعض جوانبها، فدخول دولة كبيرة وفقيرة الى المجلس له تأثيرات سلبية في البداية على بقية الأعضاء، لكن انضمام اليمن مفيد على المدى البعيد، فضلاً عن ان ما يجري من تغيرات سياسية في المنطقة بسبب احتلال العراق يفرض على دول الخليج إسراع الخطى في قبول عضوية اليمن، وتحمل بعض الاعباء الاقتصادية الموقتة من اجل كسب أهداف سياسية واستراتيجية لا تقدر بثمن.