يحرص رئيس الحكومة فؤاد السنيورة على تكرار التصريح بأنّه وما يمثّل مصرّ على تحرير آخر شبر من الأراضي اللبنانية التي ما زالت محتلّة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وما يستجدّ من أراضٍ لم تكن على مدى الانتباه بأنّها محتلّة) وعلى استعادة الأسرى اللبنانيين في السجون الاسرائيلية وعلى أنّ لبنان عربيّ عروبة خالصة لا شبهة فيها، فهو (السنيورة) صاحب خطاب وطني لبناني وقومي عربيّ تامّ. ثم انّه يكرّر أنّ العلاقات بين لبنان وسورية ينبغي أن تكون علاقات طيّبة وصريحة وممتازة وطبيعية بما فيه مصلحة البلدين.

ولكن... وعليه... ينبغي ترسيم الحدود بين البلدين كما هي الحال بين سائر البلدان العربية واقامة علاقات تمثيل دبلوماسي كما هي الحال بين سائر الدول العربية.
والسنيورة ليس بغافل عن أنّ هذا الخطاب القومي مشفوعا باقتراح وطلب اقامة علاقات دبلوماسية، لا تستطيع السلطات السورية أن تزدرده بسهولة. لماذا؟

ذلك أنّه رغم أنّ دستور الطائف قد نصّ نصّا صريحا وفي مادّته الأولى على أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، فإن ملحق هذا الدستور في معاهدة التعاون والتنسيق وما تلاها من اتّفاقات “تكاملية” بين البلدين، يجعل من ذلك النصّ نصّا نظريّا معرّضا للاهتزاز تحت وطأة التطبيق. هذا التطبيق، مدعوما بوجود الجيش السوري والمخابرات السورية على مدى 15 سنة تقريبا، جعل من الوحدة السورية ــ اللبنانية أمرا شبه واقعي، حالت دون المضي به الى آخره اعتبارات داخلية لبنانية واعتبارات سورية (لبنان كسوق حرّة ومتنفّس لنمط مغاير من الاقتصاد) واعتبارات دولية.
ورئيس الحكومة ليس بغافل أيضا عن أن النصّ النظري للدستور اللبناني يكون لبنان وطنا نهائيا، يقابله نص نظري آخر سوري ــ يعني أنّ لا وجود لأيّ وطن نهائي، بين الأوطان العربية وخصوصا في دائرة سورية الكبرى ــ الهلال الخصيب. وان جميع هذه التقسيمات والأوطان هي حاصل موقت لواقع استعماري أوقعته معاهدة سايكس ــ بيكو، وان المهمّة الأساسية للنضال القومي (بعثيا) هي ازالة آثار هذه المعاهدة واعادة توحيد الأمّة (وحدة حرية ــ اشتراكية) يعني الوحدة أولا.

ولقد جرى العمل على هذه الوحدة، كما سلف القول، في ظروف مؤاتية جدا، وهي تكليف عربي ودولي لسورية برعاية لبنان وحراسته وايقاف حربه الأهلية وضبط أمنه خلال 15 سنة ممّا يسميه البعض “الوجود السوري” وآخر يسمّيه “الوصاية” وآخر “الانتداب” وآخر “الاحتلال”، انتهى الأداء السوري في لبنان الى ما يشبه “الفاجعة القومية” (التعبير لأحد المفجوعين) التي تذكّر قليلا بانفراط الوحدة السورية ــ المصرية (الانفصال) وبعودة الجيش المصري من اليمن وبانفراط المشاريع الوحدوية المتعدّدة للقائد القذافي.

السوريون (الرئيس بشار الأسد) تكلّموا عن أخطاء. آخرون تكلّموا عن أكثر من أخطاء. ولا أحد بعد حاول أن يبيّن ما هي هذه الأخطاء وما هو حجمها في عملية تقييم ونقد لما جرى. أحد الأسباب أن هذه الأخطاء ليست سورية فقط وموغلة في مناطق حسّاسة ومتعدّدة من الطبقة السياسية اللبنانية. وما جرى هو الخروج السوري (الجيش) من لبنان خروجا اضطراريا والبعض (من حلفاء سورية) يسمّونه خروجا مهنيا، ورافقت هذا الخروج حوادث عنيفة تجاه بعض العمّال السوريين (يعني وشاية بعداء وكراهية وليس اقتناع الاخوة والصداقة فحسب).

في عودة الى الخطاب القومي الصريح للرئيس السنيورة يقول في ضوء ما جرى: “ينبغي للاخوة السوريين أن يتعوّدوا على أنّ لبنان بلد مستقل”. وهو يعرف أن هذا الطلب بالغ الصعوبة رغم أنه بالغ الواقعية في ضوء استقلال جميع البلدان العربية التي مزّقتها معاهدة سايكس ــ بيكو، وفشل الأداء السوري خلال 15 سنة في لبنان، وفي ضوء التبنّي الدولي الاستثنائي لاستقلال لبنان وسيادته المدعوم من قرارات متلاحقة في مجلس الأمن.

ولكن ما يمكن أن يكون غافلاً عنه رئيس الحكومة أو نصف غافل هو أنّ انسحاب الجيش السوري ومخابراته وهيمنته ووصايته وانتدابه و”احتلاله” من لبنان، كشف على الفور، مدى الهوى ــ النفوذ السوري في لبنان ولدى الكثير من اللبنانيين. انّه نفوذ واسع وكبير وبالغ الحساسية. اذ يتعلّق بعتبة الولاء التي هي عتبة الاستقلال ومفهوم هذا الاستقلال (سياسياً). من حزب الله الى حركة أمل الى الحزب السوري القومي الى حزب البعث نفسه الى تنظيمات ومنظمات وزعامات أخرى، الى تشكيلات اجتماعية (وهذه هي الأهم): فكأن وجود الجيش السوري في لبنان وهيمنته مع مخابراته كانا يخفّفان ويلطّفان ويخفيان انفصاماً حاداً داخل المجتمع اللبناني سياسياً واجتماعياً وايديولوجيا، انفصاماً متعدّداً بين عتبات عدّة للولاء تجعل عتبة الولاء اللبناني دائمة الاهتزاز رغم تذكرة الهوية وجواز السفر والحدود المعترف بها دولياً.

ومردّ ذلك، أساساً، النظام السياسي الطائفي الذي يستدعي “بالضرورة” أن يلوذ كلّ فريق لبناني بخارج ما خصوصاً اذا كان هذا الخارج شقيقاً، حتى ليصبح السجال السياسي اللبناني سجالاً خارج الحدود رغم النوايا الطيّبة التي استدعت طاولة الحوار واستمرار اجتماعاتها (الى متى؟) طاولة ملغمة بعتبات ولاء متعدّدة تقع في غالبيّتها خارج الحدود وتجعل عتبة الولاء اللبناني دائمة الاهتزاز والغموض والقصور عن بلوغ حدّها الوطني رغم التمنيات والتصريحات المتفائلة بأنّ اللبنانيين يستطيعون ادارة شؤونهم بأنفسهم. لا داعي للرهان فهي ليست طاولة قمار، بل المطلوب هو التبصر بالبنية الطائفية للنظام السياسي في لبنان ومفاعيل هذه البنية التي كشفت حتى الآن، ومنذ الاستقلال “الأول” عن الكثير من مفاعيل وعبر عقود متعاقبة، وهي مفاعيل كما يعرف الجميع كارثية حتى غدت الحياة اللبنانية هدنات متقاطعة بين حروب أهلية ونصف أهلية مستعادة من دون عتبة الولاء الوطني التي ما تنفك تبدو مستحيلة البلوغ.
لا بأس بترسيم الحدود وتبادل التمثيل الدبلوماسي من حيث الشكل. يبقى السؤال: “عما سينمّ هذا الشكل من مضمون جديد؟”.