عبد اللطيف مهنا

على هولها وفظاعتها وبشاعتها، ترى ما هو المختلف فيها عن ما كان من سواها من تلك المذابح التي تعرض ويتعرض وسيتعرض لها الفلسطينيون في هذا الزمن الإسرائيلي المزدهر... هذا الكلام ينطبق تماماً على مذبحة أسرة غالية الفلسطينية الغزّاوية... هذه الأسرة البسيطة التي تصادف أن اقترفت خطيئة إنسانية جداً، وهي المغامرة بالاصطياف، مثلها مثل سائر مخلوقات هذا العالم، في مثل هذا الصيف اللافح لسويعات متاحة من ذات يوم خادع الهدوء على رمال شواطئ غزة المحتلة جواً وبحراً...

ربما المختلف هنا هو في اختلاف التفاصيل لا أكثر ولا أقل... في تفاصيل المشهد وزمانه ومكانه وعديد ضحاياه ومدى تغطيته إعلامياً وصفاقة تبريره إسرائيلياً، وردود الأفعال الإقليمية والدولية عليه إن وجدت... ربما الاختلاف فحسب في مشهد الطفلة هدى تصرخ وتنتحب وتلقى بجسدها النحيل المرتعب على الرمال الصامتة صمت الموت إلى جانب جدث والدها المدرج بدمه، وعلى بعد أمتار قليلة من مزق أشلاء أجساد باقي العائلة المنكوبة...

إذن، هي ليس سوى مجرد واحدة لا أكثر ولا أقل في مسلسل مذابح يطول سرده، بل هي حصيلة مهمة إسرائيلية غدت شبه اليومية، شهدها ويشهدها وسيشهدها العالم بأسره، وربما شهد عليها بعضه، أو سيشهد مستقبلاً، ملاحظاً كيف يتفنن الإسرائيليون كما لم يفعل سواهم من الغزاة من قبل عبر التاريخ في ارتكابها… هذا المسلسل الذي تواصل وامتد امتداد الصراع العربي الصهيوني في فلسطين، حلقته تلك، مذبحة مثلها مثل ما سبقها أو تلاها من مجازر مستمرة على امتداد الروزناما الفلسطينية المثقلة بالمآسي والعذابات والنكبات، والتي ارتكبت أو دارت وتدور وستدار مستقبلاً لا لهدف سوى إثبات مقولة استراتيجية صهيونية سبقت غزو فلسطين، وكانت وتظل أساساً في صلب حركة مسعى تهويدها قبيل وبعيد النكبة، وتظل مستقبلاً البوصلة ما ظل شبراً واحداً فيها لم يهوّد بعد... ما ظل الصراع ذو الطبيعة التناحرية مستمراً... أي ما دام هذا الآخر النقيض الوجودي للكيان الغاصب المفتعل، والشاهد على جريمة الاغتصاب موجوداً... ما دام هناك فلسطينيون… مقولة تقول: أرض بلا شعب لشعب بلا وطن... وبلغة أخرى، أو بترجمة إسرائيلية حديثة، ما يوصف: بنقاء "يهودية الدولة"!!!

إذن هذه المذبحة مجرد تنويعة دموية من تلك التنويعات الإسرائيلية المعتادة التي لا تختلف وقائعها واستهدافاتها ووحشيتها، مثلاً، عن مذابح الطائرات بدون طيار فائقة البرمجة، إلا من حيث تقانة الموت المتطورة والمعقدة التي تعتمدها هذه العيون الإسرائيلية المحلقة في سماء غزة المحاطة بهذه العيون القاتلة براً وبحراً وجواً، والتي تبثّ مجساتها في أحشاء المدينة المستفردة كسواها من المدن الفلسطينية في هذا الذي قلنا أنه الزمن الإسرائيلي المزدهر... صاروخ موجّه أو مفرط الذكاء يطلق على سيارة تتحرك في شوارع غزة أو خان يونس المحتلتين على مدار الساعة جواً، لتصبح هذه السيارة بمن فيها كتلة أو خلطة معجونة من الفولاذ واللهب والأشلاء، ثم تتريث التكنولوجيا الجهنمية المتطورة قليلاً ليوعز حاسوبها القاتل فائق الدقة لصاروخ متحفز ثانٍ أو ثالث ليصطاد المسعفين والمنجدين والهارعين إلى مكان الحادث، ليخلطهم أو يلحقهم من ثم بذات الخلطة الهمجية التي سبقت للتو...

مذبحة آل غالية، والطفلة المفجوعة هدى، ذكرتنا بكل ما سبق من مذابح لا تحصى… أعادت عرض الشريط الإسرائيلي المميز من النكبة الفلسطينية وحتى ما بعد نكبة هذه العائلة الضحية... ذكرتنا بمذبحة قانا اللبنانية، وأطفال مدرسة بحر البقر المصرية... وصولاً إلى المذابح العراقية المتوالية التي ينفذها رعاة إسرائيل وداعموها والتي يتوالى، لحاجة في نفس يعقوب، مسلسل الكشف عنها هذه الأيام... ذكرنا عمير بيريتس غزة بشمعون بيرس قانا، كما أن من شأن هذه المذبحة أن بعثت دمويتها شارون من غيبوبته المديدة ليجوس شبحة ملطخ اليدين بين أزقة المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سائر فلسطين المحتلة.

...في تبريرهم لمذبحة آل غالية أصطف ثلاثة إسرائيليين أمام الكاميرات هم: الجنرال حالوتس رئيس أركان جيش الاحتلال المتعهد المذابح، والجنرال مئير كاليفي، رئيس ما تدعى لجنة التحقيق حول المذبحة، وبينهم، أو واسطة عقدهم، وزير الحرب اليساري جداً، وفق المفهوم الإسرائيلي لهذا المصطلح، وزير الحرب عمير بيرتس... الثلاثة أجمعوا على عدم مسؤولية جيش المذابح عن هذه المذبحة، وزاد رئيس الوزراء أولمرت فأكد ما أكده هؤلاء الثلاثة مشيداً ب"أخلاقية" جيشه إياه... بيد أن الطريف كان فيما ذهب إليه الجنرال رئيس لجنة التحقيق المزعومة... رجّح من أنيطت به حكاية التحقيق المزعومة أن سبب المذبحة هو قنبلة مدفونة في رمال غزة... أما المسؤولون عن المذبحة فليسوا في ظنه سوى الإرهابيين!

لم يجد الإسرائيليون عناءً في طي موضوع وتداعيات المذبحة والانصراف أو التفرغ للإعداد لسواها... الأمريكان سارعوا فاعتبروا اقترافها أمراً لا يعدو ممارسة إسرائيل لحقها الدائم في مجرد الدفاع عن النفس... والأوروبيون استفظعوا قليلاً ما حدث، من باب نفاق أدمنوا عليه في مثل هكذا حالات، لكن دونما الوصول باستفظاعهم هذا إلى الحد الذي يزعج الإسرائيليين، ثم سرعان ما انصرفوا إلى معتادهم، أي إلى تغطية الفعلة الإسرائيلية بطيها سريعاً، أو لملمتها على ذات الطريقة المتبعة بالنسبة لهم دائماً، أي بالكلام عن ضرورة مواصلة المساعي لإحياء رميم المسيرة السلمية الخ... أما العرب فقد اسمعت لو ناديت حيا... وعودة إلى الإسرائيليين، هؤلاء قفزوا على الموضوع، أي المذبحة، بمواصلة الجديد منها مع تسريب عن تعديلٍ لخطة "الانطواء" التهويدية. وجديد هذه الخطة هو اعتبار أبو مازن شريكاً فيها، كما تقول تسريباتهم تلك، لكن بشرط أن تكون هذه الشراكة بعد إنجازه للاستفتاء التي أصدر مرسومه حول وثيقة سجن "هداريم" المختلف فلسطينياًُ عليها... اختلاف لدرجة إطلالة نذر الحرب الأهلية على شرفها... ملوّحين لرئيس السلطة البلاسلطة بدولة "مؤقتة" داخل الجدار التهويدي الزاحف الملتف على أعناق التجمعات الفلسطينية أو المعازل المحاصرة في بقايا مزق الضفة المقطعة... وبالتوازي مع الإعلان عن مشروع استعماري جديد لتهويد قليل ما تبقى عربياً في القدس الشريف، يقام على 18 ألف متراً مربعاً... هو كما قيل، إنشاء مواقف سيارات وشيء من ذلك، لكنه وفق التوصيف الإسرائيلي:

"مشروع قومي ذو أهمية استراتيجية من الدرجة الأولى"، سوف يعزز بطريق تشق تحت أسوار القدس التاريخية، لربط هذا المهم من الدرجة الأولى بما يماثله من مشاريع تهويدية أخرى لا تقل أهميةً عنه!
...مذبحة آل غالية تقول أنه ما ثم فرق يمكن ملاحظته بين بيرز وبيرتس أو بين شارون وأولمرت وبين هؤلاء جميعاً والحاخام شالوم وولبو!
قد يتساءل متسائل، ومن هو هذا الحخام ومالذي يفرقه عن سواه من الحاخامين... عن الحاخام الشهير عوباديا يوسف واصف العرب بالثعابين مثلاُ... إليكم قصة الحاخام خامل الذكر الذي قد يغدو مستقبلاً شهيراً:

باختصار الحاخام شالوم وولبو يتهم رئيس وزرائه إيهود أولمرت ما سواه، بأنه عميل لحماس ومدسوس من قبل القاعدة، وحتى فار من صفوفهما، وإنهما، أي حماس والقاعدة، يخترقان الأمن الإسرائيلي عبر هذا العميل الموالي لهما الذي هو رئيس الوزراء الإسرائيلي... الحاخام لوّح بخوذة عسكرية رمزاً لاستعداده للقتال فيما دعاه "حرباً لا تعرف حدوداً"، قائلاً:

"أولمرت فار من صفوف حماس والقاعدة، وهو يساعدهم على تنفيذ خططهما المدمرة" لإسرائيل... الحاخام قال هذا، في حفل تكريم أقامه اليمين الإسرائيلي المتطرف لجندي إسرائيلي، وفي مناسبة منحه جائزة لأنه رفض مصافحة الجنرال حالوتس رئيس الأركان، باعتباره متساهلاً مع الفلسطينيين وحتى خائن لإسرائيل... جماعة الحاخام وزعوا كتيباً صغيراً، يهدد أولمرت، إذا ما أقدم على تنفيذ "خطة الانطواء" التهويدية إياها، ويتوعدوا فيه الفلسطينيين بأمور مثل "نار الجحيم"، و"أجواء من الإرهاب"، ومهاجمة قراهم، وكتابة شعارات مهينة للإسلام في المساجد... وقطع الكهرباء، وكل ما من شأنه في نظرهم إفشال هذه الخطة التي يرونها تفريطاً، أو عمالةً للفلسطينيين!!!

...من استمع إلى المؤتمر الصحفي، الذي عقده لتبرير مذبحة آل غالية كل من وزير الحرب ورئيس أركانه والمشرف على لجنة التحقيق المزعومة بشأنها، يرى بأم العين القواسم الصهيونية المشتركة بين ثلاثتهم وبين الحاخام الملوّح بالخوذة شالوم ووبلو... وقد لا يجد فرقاً بين هؤلاء وشخص آخر اسمه بيترو بيستوليزي، يعمل رئيساً لفريق المراقبين الأوروبيين أو "الدوليين" على معبر رفح، أي كمندوب وحارس مؤتمن لكونداليسا رايس هناك... بيستوليزي يهدد السلطة أو هو، كما قيل، أخبرها، بأنه يعتزم التشاور مع الولايات المتحدة حول إمكانية الانسحاب مع فريقه من المهمة المناطة به، أي مراقبة المعبر، لأن حماساً تدخل أموالاً عبر المعبر في محاولاتها مواجهة الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني! بيستوليزي أخبر كبير مفاوضي السلطة صائب عريقات بأنه "لا يمكن لفريق المراقبين مواصلة عمله ودوره إذا استمر تدفق الأموال بطريقة غير رسمية"!

بيستوليزي وصائب عريقات لم يخبرانا عن الطريقة الرسمية المتاحة لإدخال هذه الأموال للشعب المحاصر المجوّع... لكن ما فهمناه من بيستوليزي هو أن مهمته ودوره هو وفريقه لها علاقة وثيقة باستمرار مثل هذا الحصار والتجويع والوصول للهدف الذي فرض أصلاً من أجله... لكن الأغرب هو تعقيب لرئيس السلطة قال فيه مستغرباً: "إلى متى سيستمرون في إدخال الأموال بهذا الشكل"؟!!
...وعود على بدء، من المسؤول عن مذبحة آل غالية، وما سبقها ولحق بها من مذابح لن تتوقف ما دام هناك تقيضين: احتلال يريد أرضاً بلا شعب لشعب غازٍ لا حق له فيها، وشعب احتلت أرضه واستبيحت حقوقه التي لا يرضى عنها وعن استعادة حقوقه بديلاً مهما غلت التضحيات... بين محتلٍ يرى أن بقاء فلسطيني واحد يهدد وجوده المفتعل، وشاهد على جريمة مستمرة ارتكبها ويوالي ارتكابها بحق شعب اختصرته مذبحة شاطئ غزة مؤخراً في هدى غالية..؟

هدى، التي سارعت بعض الفضائيات العربية لاستغلال معاناتها كسبق صحفي عابق بالإثارة المنشودة، فأمطرنها بوابل أسئلة تعادل حفلة تعذيب لطفلة على الهواء مباشرة، ليس فيها، وإن حسنت النوايا، ما يعكس تضامناً عملياً مطلوباً هو في حكم الواجب القومي، الذي لو كان لتجرأت هذه الفضائيات فسارعت مثلاً، لتطرح، وعبر الهواء مباشرة وعلناً، حملة تبرعات من شأنها دعم صمود العرب الفلسطينيين، حيث من المؤكد أنها ستجمع بسهولة من مشاهديها أموالاً لن يبخلوا بها، ولن تعدم وسيلة لإدخالها عبر المعابر رغم أنف بيستوليزي..!
الفضائيات لن تقوى على ما لم تفعله البنوك العربية التي رُصدت فيها مساعدات تراكمت في خزائنها تنتظر إذناً أمريكياً ليس وارداً بتحويلها لشعب هدى غالية المحاصر...

إنه العجز العربي، الذي هو موضوعياً أول المسؤولين عن مذبحة آل غالية... وما سبق وما يلحق من مذابح يتحفز لارتكابها محتل يشجعه على الإمعان في ذلك، بالإضافة إلى هذا العجز، رعاية غربية وتواطؤ دولي، الأمر الذي محى الفوارق بين يسار بيرتس ويمين الحاخام شالوم وولبو، حتى لكأن الجميع هنا، بشكل أو بآخر، نسخ إما محسنة أو معدلة أو مطورة أو مبالغ فيها من الحاخام صاحب الخوذة العتيدة!
...وأخيراً، وحيث أصبح مقتل العشرات وجرح أضعافهم من الفلسطينيين يومياً أمراً معتاداً، وإذ ضاعت صرخات هدى ضياع دموعها في رمال شاطئ غزة... صرخات هدى الضائعة، قالت:

لا يواجه الفلسطينيون... هذا الشعب الصابر الصامد المكابر المطعون في ظهره الذي هو دائماً إلى الحائط... الاحتلال الإسرائيلي وحده، وإنما الولايات المتحدة التي تبرر المذابح المرتكبة ضده بأنها مجرد دفاع عن النفس من قبل محتل باغٍ مدعوم منها... والأوروبيون، بل قل: الغرب بأكمله، أو ما يكنى أحياناً ب"المجتمع الدولي"، أو "الشرعية الدولية"، أو كل ما تعنيه هذه المصطلحات لصاحبتها أو مستخدمتها الولايات المتحدة... الغرب الذي لو كانت هدى غالية يهودية لا قام الدنيا، ثم الله وحده يعلم متى يقعدها... والعجز العربي، الذي أشاح بوجهه عن قضية قضايا أمة لطالما ضحّت، وهذا من باب إنصافها، من أجل الدفاع عنها وصونها... قضية، الدفاع عنها هو دفاع عن النفس قبل أن يكون دفاعاً عن الفلسطينيين...
العجز، الذي بلغ حدود التواطؤ، والذي من مظاهره، إما محاولة نفض اليد من الصراع، أو الانفتاح التطبيعي على عدو يلغ يومياً في الدم العربي في فلسطين... أو رفع شعار "السلام"، غير العادل طبعاً وبالضرورة ووفق المعادلات القائمة، خياراً استراتيجياً وحيداً، ومع من؟! مع عدو وجوده أصلاً هو نقيض للسلام..!
وعليه، وحتى تتحمل الأمة مسؤوليتها تجاه نفسها في فلسطين... على الأسر الغزاوية أن تحاذر من الوقوع فيما أقدمت عليه أسرة هدى غالية من خطيئة إنسانية جداً!!!