الغد

لم تعد كلمات الاستغراب أو الاستهجان أو الاشمئزاز تكفي لمشاهد التعذيب في أبو غريب، فالمفارقة تكمن بأن حماة الحرية والديمقراطية حملوها وعبروا البحار، ليزرعوها لنا ولنصبح أناسا على مستوى حضارتهم ... ولنحصد الموت في كل مكان، وتوسطت وسائل الإعلام ،ونقلت لنا الصور تلو الصور، الدم والخراب وكل التجاوزات التي كان مذيعي النشرات الإخبارية يحذرون من بشاعتها وإمكان إيذاء الأطفال بها.

تعدى الموضوع الإيذاء وأصبح جزء من حياتنا اليومية .. بهذه السهولة اعتدنا على موت العراقيين ومن قبلهم الفلسطينيين والله يجيرنا من الآتي.. فسيل الديمقراطية لا يقف بوجهه أحد، الديمقراطية .. قادمة فأفسحوا لها الطريق . وإلا فأنتم إرهابيون، وتثبت التهمة عليكم أكثر إذا حاولتم المقاومة، لأن المقاومة لم تعد إلا إرهابا ولم يبق إلا أن يملك حماة الحرية والديمقراطية سلطة على الماضي، ليجردوا كل مقاومي الأرض والتي تفخر بهم كل الشعوب من أوسمتهم ومن شرف موتهم فداء لغيرهم .

الغضب من أبو غريب يتداخل مع اليأس .. ومع الأفق المسدود بعد ان فقدنا على امتداد سبعة قرون أشكال القوة .. على الأخص ان ذكرى الهولوكوست اليهودي حاضرة دائما وتحمل صورة "المعجزة" القابلة للتحقق، فمن الغيتو باتجاه دولة صغرى – كبرى بمقاييس الشرعية الدولية المستحدثة. فهل أصبحت المعاناة الوحيدة بالعالم هي ماجرى لليهود في الهولكست، وعلى كل زائر للقدس وضع إكليل من الورد على نصب يادفاشيم، ليثبت تضامن شعبه مع هذه المأساة.
بما لا تكتمل صورة اليأس، أو دفع الثمن الباهظ للبقاء إلا بعملية التجاوز القاسية .. فإذا كانت العراق حققت حسب الولايات المتحدة ديمقراطيتها، فإنها رسمت وترسم اليوم بحمام الدم، بينما كانت الديكتاتورية تكتب بالقهر والمقابر الجماعية ...

الصورة في النهائية هي ما يمارسه المجتمع داخل ذاته، أو رغبته في كسر هذا اليأس، والخروج من عنق الزجاجة العالق بها منذ القرن الخامس الهجري .. والصورة النهائية هي نوع المعرفة التي تدفع المواطن من طبيعة تناقضه الداخلي، ومطالبه الدائمة والتنصل من المسؤولية .. الكل مدعو لحملة مكافحة اليأس .. أو حملة بناء القوة ..

هذا العنوان الذي يوحي بالخطابة هو في النهاية حقائق نلمسها في التصرف اليوم، أو في الفساد الذي يشكل عنوان التفاصيل الصغيرة لحياتنا. فالفساد أولا وأخيرا لن يكون تهمة ضد مؤسسة إنه اتهام عام لأن الخيار الاجتماعي كان عدم خوض التحدي .. أو التنصل من المسؤولية. أو البقاء في زاوية المطالب التي تحمل "واجبا" محددا.