نجيب نصير

تصرعني بعض التصريحات الصحفية للكثيرين ممن يعملون في الشأن الإبداعي من كتاب وفنانين، حيث تتضمن هذه التصريحات في مجملها نوعا من الوحدانية الفوقية التي تترجم باللغة الدارجة استعارة دكتاتورية أو توق إلى الفرادة القاصرة، خصوصا مخرجي الأفلام السينمائية أو شبه السينمائية (وحال السينما عندنا كما يعرفها القاصي والداني) فهذا يصنع فيلما من الألم المعشش في خبايا ذاته التي تختصر الوطن وتضعه إلى جانب الشريان الابهر، والثاني يفضح العلاقة بين الاستعمار والتخلف والثالث يرى ان معركة الفيلم هي معركته الشخصية لأنه بشر وهو في رحم أمه ان ثمة رسالة سوف ينقلها إلى العالم الحديث عبر شريط السلولويد ولكن الحرب عليه بدأت من الشريط الممغنط (الفيديو)، وخامس يعتقد بنقل السينما إلى وزارة الدفاع لا لكي يصبح ضابطا في أعماقه النفسية أو ليحصل على تمويلات تحت شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة ولكن لأن الفيلم يشكل خط الدفاع الأول عن الوطن وبه نغزو أميركا والعالم … وسادس يحتقر وسائل التعبير الأخرى وخصوصا التلفزيون ويشدد على موضوع الشعور بالعرفان له لأنه صنع هذا الفيلم الصرخة وسابع وثامن وتاسع.. الخ ..

والمسألة برمتها فيلم لا أكثر ولا اقل … فيلم يحضره الإنسان في ساعتين من الزمن إذا أكمله ، قد يحبه وقد.. لا، وقد يستمتع أو لا يستمتع به، وقد يقنعه وقد يثير فيه أسئلة وقد … وقد … ولكنه وفي النهاية فيلم … مجرد فيلم … لا تنفع في زيادة تعريفه كل مكبرات الدنيا ولا مضخمات الذات ولا الربط مع فيلليني أو تاركوفسكي، أو الجزم بمرجعية الوطن والألم، ولا التعلق والوله بالسينما وجعلها مصدر الحياة الشخصية، ولا التذرع باضطهاد السينما لان لديها القول الخطير.. انه ساعتين من المتعة بغض النظر عما إذا كانت تسلية أم فائدة، يدخلها الإنسان مشاهدا ويخرج منها دون ان تشكل منعطفا في حياته مع أنها تضيف إلى صندوق معارفه سلبا أو إيجابا ما قد.. قد يساهم في صناعة موقفه (حتى في أكثر الأفلام صراحة وواقعية 11 فهرنهايت مثالا )…. لقد حضر ويحضر وسوف يحضر مليارات الأشخاص ملايين العروض ولم يشعروا بهذا العرفان الموهوم، وخرجوا من الصالات دون ان يذهبوا للأرق والألم الذي يشعر به المخرجون، ولم تتغير حياتهم نتيجة مشاهدتهم أربع أو خمس أفلام لمخرج قدير على مدى ربع قرن أو أكثر … فالفيلم هو الفيلم نستمتع به ونتحرك نمشي نغادر إلى محطات أخرى انه جزء بسيط جدا من الحياة يغرينا بتوابل المتعة والدهشة وليس إنجازا صمميا ولا توليدا من عل تحيط به هالة من نور، وليس قصيدة معلقة بتناقلها الألسن عبر الأجيال، وخرجها ليس العالم الفاهم النطاسي الشاعر الفلكي الرياضي الأوحد الوحيد، أنها من الحاضر، من هذا الزمان الذي نراه ونعيشه أنها من الفن الجماعي الذي لا قائد له ولا صنم، حيث لا الفكرة ولا الألم ولا الشعارات ولا التفجع الاحتجاجي ولا أي شيء سوى الصورة المنقولة من العين إلى الدماغ والباقي حكي في الهواء.

كلما زادت المعرفة، ازداد التفكير عمقا، وازداد المبدع تواضعا، لأنه عرف ان الحقيقة كل الحقيقة في العمل وليست في الكلام …. فمهما تكلم ( المبدع ) وعظم ومدح ونظر في وعن نفسه فالمسألة سوف تبقى فيلم مجرد فيلم من ملايين الأفلام يحضر في ساعتين وليس هناك ضرورة حتى للشكر فالحضور قد دفعوا ثمن بطاقاتهم !!!! .