منذ ما يقرب من عام فاجأنا الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بإعلان قراره بعدم الترشح لولاية رئاسية جديدة. ويبدو أنه كان قد أحس بأن الشك ما يزال يراود نفوس كثيرين رأوا في تصرفه مجرد مناورة سياسية، أو مقدمة لخطة محكمة تستهدف توليد آليات ضغط مسرحية بحيث يبدو العدول عن قراره، بقبوله الترشح لولاية جديدة، وكأنه جاء هذه المرة انصياعا لإرادة الجماهير وليس طمعا في بريق السلطة ونعيمها واستماتة في التشبث بها وتأبيدها. لهذا عاد صالح منذ أيام قليلة ليفاجئنا مرة ثانية مكررا ما قاله العام الماضي ومؤكدا مرة أخرى أنه ما يزال عند موقفه، وأن قراره بعدم الترشح لم يكن مناورة أو دعاية إعلامية، وإنما تعبيرا عن قناعة شخصية كاملة بضروراته وبالتالي فهو نهائي لا رجعة عنه وغير قابل للمناقشة أو المساومة. حينئذ لم يكن هناك بد من تصديق الرجل. ولذا رحبنا بالقرار، بصرف النظر عن دوافعه الحقيقية، وقدرنا أنه يستحق التحية والتشجيع وقلنا «إذا ما صدقت النيات وانعقد العزم، يصبح الرئيس علي عبد الله صالح في سبيله لتقديم القدوة والنموذج بطريقة قد تسهم، ولو بقدر، في هز شباك الاستبداد الذي أوصل العالم العربي إلى ما هو عليه من ضعف وهوان، وقلنا إن قراراً كهذا «لا يصدر إلا عن شخصية حساسة تحترم نفسها وتحب وطنها وتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة». بل إننا لم نتردد في أن نضيف إلى ما سبق قائلين، في مقال نشر الأحد الماضي في صحيفة «المصري اليوم»: «ربما يكون علي عبد الله صالح أقل الرؤساء أو القادة العرب استحقاقا للرحيل. فبوسع الرجل أن يدعي، وادعاؤه صحيح هذه المرة، أنه لعب دورا تاريخيا لتحقيق وحدة اليمن أولا ثم لإنقاذها من الانهيار والضياع بعد ذلك، وهو دور غير منكور يعترف الجميع أنه كان ضروريا لوضع هذا البلد العريق على بداية الطريق نحو الاستقرار والتقدم». لكنني استدركت قائلاً: «ومع ذلك فلا يوجد، في تقديري، دور مهما عظم شأنه يمكن أن يبرر التشبث بالسلطة والعمل على الاحتفاط بها للأبد. فدروس التاريخ تعلمنا أن تأبيد السلطة كان هو المنعطف الذي يفضي دائما إلى الانكسار، وربما الانهيار، وضياع كل المكاسب والإنجازات».

لم يدم استبشارنا بقرار علي عبدالله صالح طويلاً. فبعد أقل من أربع وعشرين ساعة عاد الرجل ليفاجئنا، مرة ثالثة، بعدوله عن قرار عدم الترشح، بدعوى الضغوط الشعبية إياها، وليؤكد أن المتشككين كانوا على حق، وأنه لا يختلف كثيرا عن بقية القادة العرب، كما توهم، أو تمنى، أمثالي من المواطنين السذج.

عدول الرئيس صالح عن قراره، بصرف النظر عن دوافعه الحقيقية، وقبوله الترشح لولاية جديدة مدتها سبع سنوات يصبح مجموع سنوات حكمه بعدها خمساً وثلاثين عاماً، يعكس أزمة القيادة في العالم العربي وعلاقتها بمعضلة التحول الديموقراطي في هذه المنطقة من العالم، وليس في اليمن وحدها. فلا يوجد بين رؤساء الجمهوريات العربية، الذين بلغت فترة حكم بعضهم حتى الآن سبعة وثلاثين عاما متصلة، من يبدو مستعدا للتخلي طواعية عن موقعه. وإذا استمر الحال على هذا المنوال فلا أمل مطلقا في أي تحول ديموقراطي قريب أو بعيد في العالم العربي، لأنه لا ديموقراطية بلا تداول للسلطة، ولا تداول للسلطة من دون تقييد لمدد ولاية الرؤساء في «النظم الجمهورية».

ومن الواضح الآن تماما أن هذه المنطقة من العالم تبدو مستعصية على أي تحول سلمي نحو الديموقراطية الحقيقية. فرؤساء جمهورياتها لا يطيقون التقيد بفترات ولاية محددة. بل إن رؤساء جمهوريات الدول القليلة التي ما تزال دساتيرها تنص على تقييد فترات الولاية لا يتورعون عن إبداء رغبتهم في التخلص نهائيا من هذا القيد، وهم على يقين كامل أن بوسعهم أن يقوموا بذلك في أي وقت. وهنا يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت مشكلة الاستبداد في العالم العربي تعود إلى نمط القيادة أم إلى طبيعة وثقافة الشعوب في العالم العربي، أم إلى الاثنين معا؟

العثور على إجابة شافية لهذه التساؤلات الحيوية ليس مسألة سهلة، ومن الصعب أن يتسع المقام هنا لمحاولة من هذا النوع على أي حال. غير أننا نلاحظ أن تغيراً نوعياً طرأ على بنية النظم السياسية في العالم العربي ربما يفسر جانباً من المعضلة التي تواجهها المنطقة هذه الأيام. فمنذ نصف قرن أو يزيد، وحين كانت رياح التغيير تهب بشدة على العالم العربي، بدت الجيوش، وليس الجماهير أو الأحزاب والتيارات السياسية الراديكالية هي أداة التغيير ووسيلته الأكثر فعالية، ونجحت، من خلال الانقلابات العسكرية، في الوصول إلى السلطة في عدد كبير من الدول العربية كان من بينها سورية ومصر والعراق واليمن والسودان وليبيا والصومال وغيرها. وبينما ظلت الجماهير والأحزاب والتيارات السياسية عاجزة عن إحداث التغيير المطلوب عند الضرورة، فإن أكثر ما يلفت النظر أن الجيوش العربية أصبحت بدورها عاجزة عن إحداث مثل هذا التغيير رغم الحاجة الماسة إليه الآن، بعد أن باتت الانقلابات العسكرية مستبعدة أو شبه مستحيلة. فقد تمكنت معظم الأنظمة السياسية العربية، من خلال تنويع وتعدد الأجهزة الأمنية وتوحيد السلطات وعملية صنع القرار وتركيزها في يد شخص واحد، من إحكام قبضتها على الجيوش. وفي هذا السياق أصبح العديد من النظم السياسية في العالم العربي، خصوصاً تلك التي جاءت بانقلابات عسكرية، ليس فقط قادرة على البقاء والاستمرار، بل وإعادة إنتاج نفسها رغم تغير سياساتها بتغير الرؤساء الذين قد يتعاقبون عليها، ولكن أيضا على التحول من نظم جمهورية اسما إلى نظم شبه ملكية فعلا، بنقل السلطة من الأب إلى الإبن إن لزم الأمر. ويعتبر النظام السياسي المصري هو أكثر النظم العربية تجسيدا لهذا الطور من أطوار النظم.

تقول الحقائق التاريخية المجردة أن النظام الذي أرست ثورة تموز (يوليو) دعائمه منذ أكثر من نصف قرن، غير قابل بطبيعته لأي تداول سلمي للسلطة. وإذا كانت قوة الجيش الذي قاد عملية الانقضاض على العهد القديم هي التي مكنت جمال عبد الناصر من تولي مقاليد السلطة، فقد راحت هذه السلطة تنتقل من بعده عبر ما يمكن تسميته «نظام التوريث بالاختيار» الذي يعطي كل رئيس حق اختيار من يخلفه. فالسبب الوحيد في وصول السادات الى السلطة كان اختيار عبد لناصر له نائبا أول قبل فترة قصيرة من رحيله المفاجئ. ومن الواضح أن مصادفات القدر ساهمت في وصول السادات إلى مقاعد الحكم في مصر لأنه ليس بوسع أحد أن يقرر أن السادات كان يمكن أن يظل اختيار عبد الناصر المفضل لو طال به العمر. واختيار الرئيس السادات للواء مبارك نائبا وحيدا له كان أيضا هو السبب الوحيد في وصول هذا الأخير الى السلطة. ولأن الخلو المفاجئ لمقعد الرئاسة، بالاغتيال هذه المرة، هو الذي أتاح الفرصة أمام مبارك ليصبح رئيسا للدولة فمن الواضح أن مصادفات القدر تدخلت للمرة الثانية وساهمت في وصول النائب إلى مقعد الرئاسة.

في ظل نظام الاستفتاء القديم المنصوص عليه في المادة 76 قبل التعديل من الطبيعي أن يبدو رئيس الدولة في مصر وكأنه مفوض وحده، نيابة عن الأمة كلها، في اختيار من يخلفه في مقعد الرئاسة. وهذا التفويض هو تفويض أمر واقع de facto ليس له أي سند في الدستور أو القانون. وقد استفاد الرئيس مبارك من هذا النظام ليجدد الولاية لنفسه أربع مرات متتالية ظل فيها حاكما مطلقا لمصر على مدى أربع وعشرين عاما متواصلة. وكان بوسع مبارك إبقاء الوضع على ما هو عليه والاستمرار على المنوال نفسه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. غير أنه، ولأسباب ما تزال في علم الغيب، قرر عدم تعيين نائب له منهيا بذلك، وإلى الأبد، «نظام التوريث بالاختيار». ثم، ولأسباب ما تزال في علم الغيب أيضا، قرر الرئيس مبارك تعديل المادة 76 بحيث ينتخب رئيس الدولة بالاقتراع السري المباشر. وكان يمكن لهذا القرار أن يغير من طبيعة وبنية النظام السياسي المصري برمته لو تم التعديل بطريقة تفتح الباب أمام كل القيادات كي تتنافس تنافسا حقيقيا ومتكافئا على الموقع الرئاسي. غير أن التعديل تم بطريقة أجهضت هذا الاحتمال كلية وأغلقت كل الطرق أمام إمكان الوصول إلى المقعد الرئاسي، في ما عدا طريق واحد هو طريق الحزب الحاكم. ولأن هذا الوضع تواكب مع صعود نجم جمال مبارك وهيمنته المتزايدة على الحزب الحاكم منذ توليه لجنة السياسات، فقد فهم القاصي والداني في مصر أن تعديل المادة 76 لم يستهدف سوى شيء واحد وهو تمهيد الطريق أمام هذا القادم الجديد لخلافة أبيه. ومعنى ذلك أن التعديل الدستوري لم يغير من جوهر وبنية النظام السياسي شيئا، مكتفيا بتغيير أسلوب نقل السلطة، الذي يتجه الآن نحو استبدال «نظام التوريث بالاختيار» ليحل محله «نظام التوريث بالدم» بصرف النظر عن الإجراءات القانونية الشكلية المستخدمة للوصول إلى الغاية المنشودة. فعلى مدى أكثر من نصف قرن لم يخل موقع رئيس الدولة، الذي تتركز في يده كل السلطات، إلا بالموت الطبيعي أو القسري. ولا يوجد ما يشير إلى أن هذا الوضع في طريقه نحو التغير الآن أو حتى في المستقبل المنظور.

وهكذا كان بوسع النظام السياسي المصري الذي أبدعته ثورة تموز (يوليو) أن يتأقلم مع ثلاثة أنماط من القيادات الشديدة التنوع لكل منها مشروع خاص. فنمط الزعامة الثورية، الذي جسده عبدالناصر، قاد مشروعا للتحرر الوطني والتنمية المستقلة والوحدة. ونمط القيادة المغامرة أو المقامرة، الذي جسده السادات، قاد المشروع النقيض الذي يقوم على التنمية الرأسمالية والتحالف مع الغرب والسلام مع إسرائيل. ونمط الرئاسة البيروقراطية الذي يجسده مبارك قاد مشروعا للإدارة النمطية والحكم من أجل الحكم. وقد واجه كل من هذه المشروعات الثلاث مأزقا من نوع خاص بدأت معالمه في مرحلة مبكرة ثم راحت تستفحل بعد ذلك. فمأزق المشروع الناصري بدأ واضحا جليا مع انهيار مشروع الوحدة مع سورية عام 1962 ثم راح يستفحل حتى تمكنت إسرائيل من توجيه ضربة قاضية له في 67. ومأزق المشروع الساداتي بدا واضحا جليا بمناسبة اندلاع «انتفاضة الخبز» التي أطلق عليها «انتفاضة الحرامية» ثم راح يستفحل بارتكاب السادات أخطاء متتالية عزلته عن شعبه في النهاية وجعلته يقف وحيدا إلى أن وقع اغتياله في مشهد بالغ العنف. أما مأزق مشروع مبارك فقد بدا في اللحظة نفسها التي انتهى فيها من فك الاحتقان الداخلي الذي سببته حقبة السادات، بعد أن نجح في تأمين الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وعودة مقر الجامعة العربية إلى مصر، ثم راح يتصاعد إلى أن وصل حالة احتقان أعمق تنبئ بكارثة جديدة.

لو كان هؤلاء القادة الثلاثة قد أدركوا أن بنية النظام السياسي التي لا تسمح بتداول السلطة على اسس ديموقراطية، هي السبب الأساسي في كل المآزق التي واجهتها مشاريعهم المتباينة، لما وقعت الكوارث السابقة ولما استمر الخوف من الكوارث القادمة المحتملة. لو أدرك عبدالناصر هذه الحقيقة وبدأ يعد نظامه في أعقاب الانفصال السوري لعملية تحول ديمقراطي حقيقي، حتى لو تطلب الأمر تركه لموقعه في السلطة، لما وقعت كارثة 67. ولو كان الرئيس السادات فعل الشيء نفسه في أعقاب انتفاضة الخبز لما ارتكبت الأخطاء التي أودت بحياته في النهاية. أما الرئيس مبارك فما تزال الفرصة متاحة أمامه ليفعل الشيء نفسه إذا أراد انقاذ مصر من الكارثة المحتملة القادمة.

غير أن المعضلة الحقيقية لا تكمن في الشجاعة التي قد يتطلبها اتخاذ الرئيس قراره بالرحيل في الوقت المناسب، ولكن في كيفية إعداد البلاد مؤسسياً كي تحسن الاختيار من بعده. وهذا هو الدرس الوحيد الذي يمكن استخلاصه مما جرى ويجري في اليمن الآن.