قام باحثان سوريان في الأيام الماضية بزيارة إلى فرنسا والتقيا هناك مع مسؤولين في وزارة الخارجية، وكان الغاية من الزيارة حسب ما فهمنا من ديبلوماسي فرنسي يعمل في دمشق: «كسر الجمود وتبادل وجهات النظر لأن التواصل واللقاءات المباشرة أفضل بكثير من الانقطاع»،

بدوره أخبرني صديق و«باحث» أنه سيكون في عداد الوفد السوري الذي سيزور فرنسا بعد هذا التحرك، وهذا يعني أن زيارات أخرى ستتبع هذه الزيارة، وأن محاولات تبذل لأجل ارجاع العلاقة السورية- الفرنسية إلى سابق عهدها قبل صدور القرار 1559 وجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، حين وقفت باريس والرئيس جاك شيراك على مسافة قريبة من قوى لبنانية معارضة لدمشق.

صحيح انه من السابق لأوانه التفاؤل بعودة قريبة ترجع العلاقة الثنائية إلى سابق عهدها لأن ذلك يحتاج وقتا طويلا، ولأن ثمة قضايا اقليمية متعددة لا بد وأن تترك آثارها على الملف السوري- اللبناني، إلا أن ما حصل يبدو أنه الخطوة الصحيحة على الطريق الصحيح حتى لو أتى متأخرا، لأن مثل هذه التحركات أفضل بكثير من خيار دمشق «بالاتجاه شرقاً» نحو دول في آسيا مثل الصين والهند وماليزيا وسنغافورة واندونيسيا، لأن هذه الدول لن تشكل بديلاً عن أوروبا وعن الدور الفرنسي الذي تحتاجه دمشق اليوم أكثر من أي وقت وبخاصة بعد جملة المتغيرات الاقليمية التي فرضها الاحتلال الأميركي للعراق، ومن ثم الانسحاب السوري من لبنان.

ورغم الأجواء الايجابية التي تمخضت عن زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم منذ فترة وجيزة إلى الصين، وغيرها من الزيارات التي قام بها مسؤولون سوريون باتجاه عواصم آسيوية وأخرى في أميركا اللاتينية، فإن جميع نتائج هذه الزيارات وفي ما لو وضعت في الميزان، سوف لن تعادل أبدا علاقة طيبة وحسنة بين دمشق وأوروبا, لقد بات من المعروف أن هذه التحركات السورية باتجاه تلك العواصم البعيدة غير المؤثرة في القرار والسياسة الدوليين، أصبحت تندرج ضمن استراتيجية جديدة للديبلوماسية السورية، تسعى لتوفير بدائل عن العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد أن تم وضع اتفاق الشراكة في «الثلاجة» وبعد أن شهدت علاقة دمشق ببعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، المزيد من التقهقر على خلفية التبني الفرنسي- الأميركي للقرار 1559 الذي دعا إلى خروج القوات العسكرية السورية من لبنان، ثم ازدادت هذه العلاقات تدهورا وتراجعا في أعقاب جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري, أيضاً تأتي هذه التوجهات في وقت شهدت العلاقات مع الولايات المتحدة منذ بدء احتلال العراق، جمودا وصل حد القطيعة، إذ سعت واشنطن لاحكام طوق من العزلة الدولية والاقليمية على دمشق.

ما يجب التنويه به هو أن وزير الخارجية السورية أقر في مجلس الشعب السوري أخيراً بأن علاقات دمشق مع الاتحاد الأوروبي وأميركا تعرضت «إلى صعوبات», لا بل ان المعلم اعترف بأن الولايات المتحدة «تسببت بأضرار لدمشق، ولكن هذا الضرر «بقي في اطار محدود تمثل بأوروبا», لكن على هذا الصعيد ربما يختلف كثيرون في تقييم وزير الخارجية لحجم الضرر الواقع على سورية حين قال إنه «بقي في اطار محدود تمثل في أوروبا»، فهنا يجب أن نعترف وبكثير من الصراحة والجرأة أن الضرر في العلاقة السورية- الأوروبية كان كبيراً وليس محدودا، لاننا ندرك تماما الحجم والثقل السياسي والاقتصادي الذي تمثله أوروبا رغم كل ما يقال عن تنام اقتصادي للصين، ورغم أهمية بعض الدول في القارة الآسيوية وأميركا الجنوبية، لا بل إن جزءا من المشكلة السورية على مستوى ديبلوماسي يتعلق بعدم فهمنا لتناقض وتعارض واختلاف المصالح بين الولايات المتحدة وأوروبا، وعدم قدرتنا على «اللعب» على هذا الوتر، في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة لخنق سورية ونظامها وتطويقه.

إن تلاقي المصالح الفرنسية- الأميركية في وقت ومكان ما، كما حصل إبان التهيئة للقرار 1559، ما كان يجب أن يفوت الديبلوماسية السورية، هذا إذا لم نقل، إنه كان على دمشق أن تعمل جاهدة على تفويت هذه الفرصة، لكن هذا لم يحصل، ثم حدثت تطورات كثيرة جعلت الفرنسيين والأميركيين أكثر قربا من بعضهم إزاء موقفهم من دمشق، ومع الوقت راحت المسافة بين باريس ودمشق، ومن ثم دمشق وعموم دول الاتحاد الأوروبي تكبر شيئا فشيئا، فبدلاً من أن تسعى الديبلوماسية السورية لحشد كل الرصيد والعلاقات الدولية الطيبة التي كانت مع الأوروبيين لأجل تحييد الولايات المتحدة والتخفيف من ضغوطاتها، استيقظنا على واقع جديد تمثل في حصول التصاق أكبر بين الأوروبيين والأميركيين في نظرتهم وتعاملهم وموقفهم من دمشق!

نقول ذلك لأننا، ومهما وصل إليه حجم الخلافات وسوء الفهم مع أوروبا، نبقى بحاجة إليها كقوة موازية وربما مواجهة للولايات المتحدة التي أعدت ومنذ وصول المحافظين الجدد بقيادة جورج بوش الابن إلى الحكم، أجندة للهيمنة على عموم دول الشرق الأوسط بغية التحكم بأسعار الطاقة العالمية والسيطرة على أكثر البقع الجيواستراتيجية أهمية في العالم, إن أوروبا تدرك ذلك جيدا، كذلك الصين وروسيا، لكن هذه الدول العظمى تملك مقومات وبنى تستطيع من خلالها خوض الصراع بطريقتها مع الولايات المتحدة، أما نحن، فلا نملك الكثير من الخيارات في مواجهة ذلك، وللدلالة، يكفي القيام بمراجعة لما حصل في العراق، ولكمية القرارات وخطورتها التي اتخذت من قبل مجلس الأمن منذ ثلاثة أعوام ضد سورية، إن هذه مؤشرات تبرهن أننا بقينا وحيدين في مواجهة القوة الوحيدة في العالم، بعكس الاستراتيجية السورية إبان الحرب الباردة في الستينات والسبعينات حين استفادت دمشق من تناقضات تلك الحرب وصنعت لذاتها موقعا اقليميا كبيرا, في هذا السياق، وعودة للخيار السوري في الاتجاه شرقا، أو بالاعتماد على دول مثل الصين وروسيا والهند وغيرها، علينا الاعتراف أن تلك الدول لم تستطع منع صدور القرار 1559، رغم انها تملك حق النقض «الفيتو» كذلك حين التداول في القرار 1680 الذي صدر أخيراً، وبصمت روسي وصيني وموافقة قطرية «قطرية أم عربية؟».

من ناحية ثانية، فإن أوروبا، ولننس مرة أخرى الخلافات الحالية، تمثل واقعا جيوسياسيا لا يمكن القفز من فوقه مهما بلغت حدة وحجم الخلافات، إن بحيرة ماء وبضعة كيلو مترات فقط تفصلنا عنها، وإذا ما دققنا جيدا في الجغرافية، سنكتشف أن أوروبا على أبوابنا، فهي ستصبح جارتنا مباشرة بعد انضمام تركيا النهائي للاتحاد الأوروبي! فوق ذلك، يجب ألا ننسى أيضاً، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والثقافية، نعم الثقافية، إذ كان هؤلاء الأوروبيون، وسيبقون، الأكثر قرباً لنا من الأميركيين والصينيين والهنود وغيرهم.

وأخيراً، لا بد من القول إن الخيار السوري في الاتجاه شرقا، لا يمثل خياراً بقدر ما هو محاولة للقفز على مشكلة كبيرة في علاقات سورية مع أوروبا، إن هذه الوجهة للقطار السوري نحو محطات بعيدة كبكين ونيودلهي وكوالالمبور، تبدو أنها ليست ذات جدوى كبيرة، عدا عن انها ستكلفنا كثيرا من «الوقود» والنتائج لن تكون إلا هزيلة.