أفضل ما في مهنة الصحافة أنها تتيح لك الفرصة للخروج من روتينك اليومي، والنظر من آن لآخر، إلى العالم من خلال منظور مختلف تماماً. وغابات الأمازون البيروفية توفر لك مثل هذا المنظور، لأن النظر إلى العالم من خلال هذه الغابات الكثيفة وفر لي زاوية رؤية جديدة عن موضوعين هما العنف في الشرق الأوسط، وانتشار الإنترنت.
ومما يدهشك في الغابات الاستوائية، وخصوصاً عند النظر إليها عن قرب أنها عالم عنيف بشكل لا يصدق بما تحتويه من أشجار ونباتات وكروم تتنافس جميعها على أشعة الشمس، وحيوانات وطيور تتصارع مع بعضهاً بعضاً على الغذاء. لقد كنت دائماً أشعر بالإعجاب بدليلنا البيروفي في الغابات، وهو يذكر لي اسم حيوان، أو طائر معين، ثم يذكر لي بعده فوراً الحيوان أو الطائر الذي يفترسه. ففي عالم الغابات المطرية فإن كل شخص وكل شيء هو جزء من منظومة ثنائية تتكون من صياد وفريسة. نعم ليس هناك نظير لعنف الغابات المطرية، ولكنه عنف له هدف يمكن التعرف عليه وهو أن النباتات والحيوانات تقوم بتحديد خطوط مناطق معينة من الغابة ثم تقوم بحمايتها من أجل بقاء أجناسها على قيد الحياة.
ويتعين عليَّ في هذا السياق القول إن العنف الذي يتفجر الآن بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو عنف دون أي هدف على الإطلاق. فإسرائيل كانت قد جلت عن غزة فما الذي فعلته "حماس"؟ بدلاً من أن تضع "حماس" كافة طاقاتها في بناء عش لحماية صغارها وإقامة دولة ومجتمع لائقين وتوفير الوظائف لشعبها فإنها راحت تطلق مئات الصواريخ على إسرائيل. إن الفلسطينيين يمكن أن يحصلوا على دولة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية غداً إذا ما اعترفوا، واعترفت الجامعة العربية بوضوح، بإسرائيل وطبَّعت معها العلاقات ونبذت العنف. وأي شخص يقول غير هذا معناه أنه لا يعرف إسرائيل اليوم. ولكن الأشخاص الذين يقفون وراء السياسات الفلسطينية، يبدون عاقدين العزم على تحطيم إسرائيل في أراضيها حتى لو أدى ذلك إلى تدمير أنفسهم في أراضيهم. والأجناس التي تتبع هذا الخيار في الغابات المطرية يكون مصيرها عادة الانقراض في نهاية المطاف.
أما عن الإنترنت في الغابات المطرية فإن وجهة نظري أنه لا يوجد هناك إنترنت في مثل هذه الغابات. نعم، فلقد اضطررت إلى الذهاب إلى مركز أبحاث "تامبوباتا" في أعماق إقليم الأمازون البيروفي كي أعثر على خدمة إنترنت، وأستطيع أن أقول إنه لا تزال هناك مناطق في العالم لا توجد فيها خدمات الإنترنت أو الهواتف الخليوية..
ويتعين عليَّ القول أيضاً باعتباري من المدمنين على وسائل الاتصال الحديثة، أنني قد شعرت بأنني قد تطهَّرت من بعض آثار هذا الإدمان، عندما أمضيت أربعة أيام محروماً تماماً من الاتصال بأي أحد. إنها آفة الحداثة، لقد انتقلنا من العصر الحديدي إلى العصر الصناعي إلى عصر المعلومات إلى عصر المقاطعة أي مقاطعة ما يفعله الآخرون. فنحن نقوم اليوم في الحقيقة بمقاطعة أنفسنا بالرسائل النصية على الهاتف، ورسائل البريد الإليكتروني، أو رنات الهاتف أو الإعلانات التطفلية التي تقفز أمامنا على شاشة الكمبيوتر. من ذا الذي يستطيع أن يفكر أو يكتب أو يبدع تحت هذه الظروف؟ إن المرء ليتساءل من آن لآخر هل يؤدي عصر المقاطعة، إلى أفول الحضارة بسبب تقلص مساحات الاهتمام والتركيز؟ وهل لو ذهبنا إلى طبيب متخصص في تلك الحالات سيقوم فعلاً بتشخيص أننا نعاني من اضطراب نقص التركيز؟
إنني أعرف أن "الاتصالية" بمعنى القدرة على الاتصال والتواصل مع الآخرين تعني إنتاجية أفضل، ولكن المشكلة تحدث عندما تزداد جرعة الاتصالية عن الحاجة. نعم فنحن يمكن أن نطلق على شخص ما أنه "متصل أكثر من اللازم". هل المجتمع الحديث يمضي في هذا الاتجاه مع دخول المزيد من الأشخاص من كافة مستويات الدخل إلى عالم الاتصالات. إن كل شخص قابلته في بيرو كان لديه هاتف خليوي وهو ما يعني أن بيرو مثلها في ذلك مثل الكثير من الدول النامية في مختلف أنحاء العالم تنتقل الآن إلى عالم الهواتف الخليوية وتتخلى تدريجياً عن نظام الهواتف العادية التي تعتمد على الخطوط الأرضية.
إن ذلك يعني أن كل شخص سيكون دائماً "بالداخل" أي موجوداً، وأنك لن تكون أبداً "في الخارج" أي غير موجود. فعبارة في "الخارج" أو غير موجود عندما يتصل أحد بأحد هاتفياً أصبحت غير موجودة، لقد انتهت.
ربما سنقوم بعد فترة من الوقت بإعادة اختراع شكل جديد للادعاء بأن المرء في الخارج أو غير موجود، وربما تطلع قريباً على إعلان يدعوك لقضاء عطلة في منتجع تابع لسلسلة فنادق مشهورة يقول لك "نحن نضمن لك أن أي غرفة تستأجرها لدينا ستكون مزودة بخدمة الإنترنت".
إن الشيء الذي أثار دهشتي بشأن دليلنا البيروفي في الغابة هو أنه لم يكن يحمل أي جهاز، ولم يكن يعاني على الإطلاق من "مرض الاهتمام الجزئي المستمر"، وإنما يمكن القول إنه كان يتمتع بالقدرة على الاهتمام الكامل المستمر. لقد كان الرجل قادراً على أن يستمع إلى أي صوت من أصوات الطيور، أو أي صفير صادر من بين الأشجار، أو أي صوت عواء خافت، بل وأي خشخشة للأوراق، ويقوم بإيقافنا مسمرين في مكاننا ليقول لنا إن هذه الزقزقة لطائر ما، أو أن هذا العواء يصدر عن حيوان ما، أو أن هذه الخشخشة صادرة عن حركة حشرة ما. علاوة على ذلك كان الرجل يتمتع ببصر قوي بشكل لا يصدق حيث لم يحدث أن غابت عنه شبكة عنكبوت، أو فراشة طائرة، أو حتى طابور من النمل.
لقد كان الرجل منقطعاً تماماً عن شبكة الإنترنت، ولكنه كان متصلاً تماماً وبشكل لا يصدق بشبكة أخرى، إنها شبكة الحياة من حوله. وإنني أتساءل هل هناك درس يمكننا استخلاصه من ذلك؟