في الصحافة، مهمة الخبر تقديم تفاصيل الحدث. عرض وجهات نظر الأطراف المعنية به هو مهمة التحليل الإخباري المحايد. لكن التحليل السياسي هو مهمة الصحافة الأصعب. فهو يتطلب إبداء رأي واتخاذ موقف.

عندما تضيق حرية السياسة تضيق حرية الصحافة. عندها يتأدب الكتاب والمعلقون. يغدو التحليل الإخباري بديلا للتحليل السياسي. يكفي المعلق والكاتب عرض وجهات النظر المتبادلة إزاء الحدث. وكفى الله الصحافة والكتاب والمعلقين شر إبداء الرأي والالتزام بموقف.

التحليل السياسي يتطلب شجاعة كبيرة لدى الكاتب والمعلق والصحافة. إبداء رأي واتخاذ موقف في لحظة الاهتياج العاطفي والغليان السياسي ليسا بالأمر الهيِّن على الصحافة الحرة والأمينة لمهمتها، مهمة تقديم الحقيقة، أو على الأقل، عدم إخفاء ظل الحقيقة.

الخطر الكبير على الرأي العام، بل على أمة ومجتمع ما، ان يساير التحليل السياسي العاطفة، ويركب الموجة الاهتياجية السائدة في الشارع أو في السياسة. نعم، الكاتب أو المعلق الذي يتعالى على جرح أمته، ويتفاصح عليها هو بمثابة المتبرئ الناكر لانتمائه إليها. لكن الانتماء الوطني والقومي يجب أن لا يغِّلب العاطفة على العقل، ولا المسايرة المريحة على المنطق الناقد.

من هنا، أطرق الموضوع مباشرة، فأقول إن حفنة منظمات وتنظيمات مسلحة بالكلاشنيكوف والكاتيوشا والقنابل اليدوية في شارع غزة، لا تملك رسم السياسة القومية، وليس من حقها أن تفرض على العرب، دولاً ومجتمعات، سلوكها، وتلزمهم بفوضاها وصراعاتها، وارتباطاتها المحلية والإقليمية. الموقف العربي لا يفرضه صاروخ بدائي من القصدير حائر الهدف وضئيل الجدوى.

ثمة اعتقاد خاطئ أو مضلل لدى بعض الفلسطينيين، بأن العرب لا يعانون ما يعانون، ولا يشعرون بالخطر كما يشعرون. عندما يهبط صاروخ قسام «بسلام» في مستوطنة اسرائيلية، وتتذرع اسرائيل به لتحصد بهجمة همجية المدنيين الأبرياء في غزة، عندها تتعالى الصرخة الفلسطينية: أين العرب؟ لماذا لا تتفتح الجبهات الصامتة؟ لماذا لا تنطلق الصواريخ العربية؟... ثم تبدأ حملة التهجم والتشنج على الوسطاء العرب، وتعيير النظام العربي بالموقف الإيراني «الممول» وحزبه اللبناني «المدرِّب».

في الرد المؤدب والمهذب، أقول: هل شاور صاروخ قسام العرب قبل أن ينطلق على غير هدى؟ هل نسقت تنظيمات ومنظمات غزة مع العرب كما تنسق مع إيران؟ وحدت حرب إسرائيل على غزة المنظمات، فلماذاس لم توحدها قبلا وسلفا السياسة؟!

قلت هنا سابقا وكررت إن معركة الفلسطينيين والعرب هي في الضفة، وليست في غزة. كان على حكومة حماس واجب منع إطلاق الصواريخ. بدلا من ذلك، فقد شكل هنية وصيام ميليشيا «رسمية» كانت عبئا على الغزِّيين. فقد زادت من ضرام الصدام بين المنظمات. كان على عباس ضبط أجنحة فتح، وإنهاء الفلتان الأمني للأجهزة المتعددة، وملاحقة العصابات التي تفرض الخوة والابتزاز على الغزيين البائسين باسم الجهاد والنضال. بدلا من ذلك، انشأ عباس ميليشيا رئاسية لمواجهة ميليشيا الحكومة!

كان اسحق رابين يقول: «أتمنى لو أن غزة تغرق في البحر». لكن غزة البطلة غرقت وتغرق بالدماء والدموع. فرضت غزة على المحتل الانسحاب. كانت غزة، بعد ذلك، بحاجة الى الراحة. ثم إلى البناء والإعمار. كانت غزة بحاجة الى السواعد الفلسطينية المفتولة التي أجبرتها الحاجة الطويلة الى العمل والمال، فعمَّرت إسرائيل، وبنت المستوطنات لليهود في الضفة وغزة. هذه السواعد بحاجة الى المال العربي والفلسطيني لبناء غزة. لكن المال كالأبناء عزيز على النفس. هرب المال الحلال من السواعد المفتولة التي تحمل القسام.

قادت انتفاضة الأحجار (1993/87) الى محاولة التسوية الشاملة في مدريد. آثر عرفات وعباس التسوية الجزئية المنفردة في أوسلو، من دون مشاورة العرب. سرعت التسوية المتدرجة الاستيطان، ثم أطلقت الانتفاضة المسلحة في عام 2000 العنان لاسرائيل، لاستخدام القوة النارية المتفوقة ضد «الإرهاب» الفلسطيني، ولحصار وقصف مناطق السلطة الفلسطينية «المحررة».

انشيءت اسرائيل بسلاح منظمات الإرهاب الصهيونية. في الستينات والسبعينات، قفزت كتب اسرائيلية الى رفوف مكتبات أوروبا تحكي بطولات الموساد في اغتيال المسؤولين الفلسطينيين. اختفت الكتب بسقوط الآيديولوجيا الدموية والثورية. بظهور إرهاب ابن لادن الجماعي، تداخل مفهوم الإرهاب مع مفهوم المقاومة.

لم تتنبه المنظمات الفلسطينية الى سيادة مبدأ «الكفاح السياسي» في عصر بات يرفض الثورة المسلحة، ويعتبرها ارهابا. نتيجة لذلك، أخفقت الانتفاضة المسلحة التي انطلقت عام 2000، عندما تمكنت اسرائيل من دمغها بالإرهاب، مستعينة بثقافة «مكافحة الإرهاب» التي روجها بوش في العالم.

ما أفدح جبروت الإعلام المتحيز! الغرب يساوي إرهاب المنظمة بإرهاب الدولة. ليس من أجل استعادة الجندي جلعاد شليط، إنما انطلقت هجمة اسرائيل على غزة لتحقيق هدفين: إلحاق أكبر خسارة بشرية ممكنة بالفلسطينيين «تأديبا» لهم. وتدمير البنى الأساسية اللازمة للدولة الفلسطينية في حالة قيامها. قتلت «فوانيس» قسام ثمانية إسرائيليين فقط خلال خمس سنين. قتلت صواريخ اسرائيل ومدافعها خلال أقل من شهرين نحو مائتي فلسطيني، وجرحت المئات.

من المسؤول عن مأساة غزة؟

هل هي حكومة حماس؟ هل هم «الشباب» في المنظمات والتنظيمات الذين لا يعرفون شيئا عن التوازنات الدقيقة في الصراعات الدولية؟ هل هي إسرائيل التي تسخر صحافتها من ساستها وعساكرها، بعد النتائج السياسية القليلة للحملة؟ هل هي إيران التي تمول وتدرب، وتمارس مع دمشق ثنائية الالتزام العلني بما يقرره الفلسطينيون بخصوص التسوية السلمية، وتحرضهم بالمال والسلاح ضدها، بلامبالاة «دينية» بمعاناة ملايين الفلسطينيين المحاصرين بين سلاح فلسطيني غير مُجْدٍ، وسلاح إسرائيلي متفوق، لا ترحم قوته النارية المدنيين؟ المعركة لم تنته بعد، اسرائيل انسحبت من هنا، لتدخل من هناك. شكلت منطقة واقية في شمال القطاع. قد تعود اذا ما استمر القسام. أكتب هذه الكلمات ومصير الجندي شليط معلق بين تشنج قادته المدنيين والعسكريين، والمساومة بين حماس غزة وهنية، وحماس مشعل إيران وسورية. عرض هنية «التهدئة» على اسرائيل. لماذا لم يعرضها قبل الاجتياح وفناء المدنيين الأبرياء؟!

أيا كان مصير الجندي المخطوف والقسام، فقد كسب الأصوليون «الجهاديون» معركة الدعاية في الشارع، وفقدوا منطق السياسة. ربحت حكومة حماس الاعتراف الإسرائيلي بها ولو ضمنا، في عرض مقايضة شليط بعدد من الأسرى الفلسطينيين.

الخاسر الأكبر هو عباس. اضطرته الحرب الى الالتحاق بحكومة حماس التي كان يهدد باقالتها. خرج من المساومة والتسوية. «لو كنت مكانه لأعلنت حل السلطة». لست أنا الذي أقول هذا الكلام. قلته سابقا. ظننت أني لست واقعيا. هذا الكلام يقوله الآن المحلل السياسي الفلسطيني البارز الدكتور علي الجرباوي العميد في جامعة «بيرزيت»، ناصحا عباس.

حل السلطة، انتظارا للتسوية، هو السبيل الأفضل لالزام المحتل دوليا بالتعامل مع المحتلين بحد أدنى من المسؤولية الانسانية، فلا يجرؤ على قصف المدنيين بحجة أنهم يعيشون في منطقة «محررة» تخضع لسلطة وطنية عاجزة، وسلطات منظمات وتنظيمات غير منضبطة.