العملية الأخيرة لـ "حزب الله" بحصيلة قتلاها وأسراها على الجانب الإسرائيلي هي الإعلان الأوضح من طرف الحزب عن الدخول "عملياً" في لعبة المكاسرة بين لاعبي الشرق الأوسط. أقول الأوضح لأن للحزب صلات سابقة بما يجري من مكاسرة عبر طرق غير مباشرة لا سيما في فلسطين والعراق.
الدخول "العملي" هذا في لعبة المكاسرة بين لاعبي الشرق الأوسط، أي إيران وسوريا والولايات المتحدة وإسرائيل، يتصل بشكل أساسي بإعادة رسم المعادلات الإقليمية وأدوار أطرافها وأحجامهم وفق معطيات الضعف الأميركي في العراق.
فثمة اقتناع تتشاركه إيران وسوريا مع قيادتي "حزب الله" و"حماس" (لا سيما خالد مشعل المقيم في دمشق) مفاده أن الضعف الأميركي في العراق والانهيارات المتلاحقة لمحاولات الإمساك بالأمن على الرغم من وجود مئات الآلاف من قوات الأمن العراقي والقوات المتعددة الجنسية معطوفة على تعثر جسيم يلم بالعملية السياسية، توفر لحظة ميدانية خصبة لالتقاط الأنفاس وتحسين شروط الصراع إن لجهة تفاصيل المنازلة بشأن ملف طهران النووي أو بشأن الضغوط على نظام دمشق.
العلامات الأساسية التي تنهض عليها نظرية الضعف الأميركي في العراق تُستقى من سلوك الإدارة السياسية الميدانية للمشروع العراقي التي يمسك بها سفير واشنطن في بغداد زلماي خليل زاد. فالرجل الذي يعد مهندس مبادرة المصالحة الوطنية لحكومة المالكي بات يدفع دفعا حثيثا في اتجاه "الحوار" مع المسلحين مسقطاً بذلك التقنية الأميركية الأساسية في الحرب على الارهاب والتي تقول بعدم الحوار مع الارهابيين.
هذه التقنية بموجبها خيضت معارك بالغة الشراسة كمعركة الفلوجة وعمليات الأنبار. كما أن تصريحات خليل زاد للصحافة الأميركية باتـــــــت تنضح اخيرا "واقعية سياسية" بعيدة عن لغة الرجل القادم من معسكر المحافظين الجدد.
الى ذلك يضاف الحديث المتنامي أميركياً عن قرب مغادرة العراق على الرغم من تشويش الثنائية الحزبية الأميركية المحيطة بهذا الملف. وكي لا تبدو لغة خليل زاد مفردة في بابها، وجب التنبه إلى أنها لغة هابطة عليه من أعلى الهرم السياسي الأميركي.
ولا عجب أن يكون حديث الصحافة الأميركية هذه الأيام هو رصد متغيرات خطاب بوش أو ما سمّته مجلة "تايم" الأميركية "نهاية ديبلوماسية راعي البقر" التي ميزت "مذهب بوش" منذ ما بعد جريمة الحادي عشر من ايلول. فالديبلوماسية التي بات البيت الأبيض يعول عليها في ملفي إيران وكوريا الشمالية تدخل في سياق تأقلم النظرية البوشية مع متطلبات الانضباط التي تمليها تعقيدات النسيج الدولي وتحالفاته ومؤسساته حتى الهزيل منها كالأمم المتحدة.
كما يبني محور طهران - دمشق وحلفاؤه جزءا من موقفه على ما يعتبره فتور الحماسة الأميركية لمشروع الدمقرطة في الشرق الأوسط من خلال تعثر درة تاج هذا المشروع في لبنان وفشل تحول ثورة الأرز الى أكثر من "فيديو كليب" دعائي بالإضافة الى تراجع نبرة البيت الأبيض بشأن الإصلاح والديموقراطية في مصر حيث يتم التعامل مع سجن المرشح الرئاسي أيمن نور بتصريحات متباعدة ومن موظفين في ادنى سلك الخارجية الأميركية.
وعليه ترتسم وفق هذا الاقتناع مسارات ميدانية وسياسية وديبلوماسية جاءت عملية "حزب الله" لتكون التعبير الأحدث، وليس الأخير، عنها. وهي مسارات عبّر عنها وزير الدفاع السوري خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني خلال زيارة الاولى لطهران بقوله إنه ليس سراً أن التحالف الإستراتيجي السوري الإيراني يعمل على حشد "إمكانات وطاقات وجبهات ودول وحركات" لمقاومة السياسات الإسرائيلية والأميركية.
كما أن حركة "حماس" وعلى لسان ممثلها المقيم في لبنان والوثيق الصلة بقيادة "حزب الله" أسامة حمدان أشارت بشكل واضح قبل أسبوعين الى أن استمرار العملية العسكرية في غزة سيفتح جبهات أخرى في المنطقة على نحو سيغير المعادلات السياسية والأمنية التي نعرف. وعليه لا يعدو تكرار "حزب الله" القول إن العملية مرتبطة بمعادلات داخلية، كونه "تضليلاً خطابياً" يستشعر مبلغ الحساسية اللبنانية من تصعيد كالذي أقدم عليه.
فالحزب صاحب أجندة نضالية تريد البقاء عند مستوى تطلعات "أحرار وشرفاء العالم" كما جاء في الخطاب الأخير، كما أنه كيان سياسي لبناني وصاحب تمثيل لمصالح داخلية معقدة ينبغي عليه التنبه للإشارات الصادرة عنها، وهي إشارات لا تضيع وسط ضجيج مفرقعات الإبتهاج.

سوريا وإيران

لم يُبق المؤتمر الصحافي الأخير لخالد مشعل في دمشق أي لبس حيال مصدر القرار بشن عملية خطف الجندي الإسرائيلي. فلا السيد مشعل هو الإمام الخميني ولا سوريا هي فرنسا حيث يمكن لسياسي وداعيةٍ أن يخط لنفسه مسارات بعيدة عن مسارات سياسة الدولة المضيفة.
كما أن سوريا التي سمحت للسيد مشعل بأن يملي شروطه من أحد فنادقها وأمام حشد إعلامي كبير، كانت سبّاقة في تحريض حركة "حماس" على قبول تسوية سياسية لحل أزمة الجندي المختطف بحسب ما تم تسريبه الى أكثر من وسيلة إعلامية عربية للقول بأنها طرف أساسي يجب الركون اليه إذا ما توافرت نيات الحل. فسوريا التصدي وتنسيق حركات المواجهة لأميركا وإسرائيل بحسب السيد توركماني هي أيضا سوريا تنسيق الحلول لأزمات تعرف كيف تخلقها ومتى.
وبهذا تحاول دمشق الانتقال من ضفة النظام المستهدف الى ضفة النظام الذي يجب الركون اليه للعب دور مركزي في أمن المنطقة واستقرارها على النحو الذي كانته المعادلات قبل زمن ليس بعيد.
وإذا كان النظام السوري يخوض معركة وجود واستعادة مكانة مهدورة فإن إيران الأكثر راحة تخوض معركة الانتقال من مكانة راهنة الى مكانة أرفع يسندها سلاح نووي ورعب عالمي في منطقة بالغة الحيوية والحساسية في الآن عينه. وهي لأجل ذلك تمعن في بث الرسائل عبر جبهة جنوب لبنان الى إسرائيل، وعبر العراق الى الولايات المتحدة بضرورة القبول بإيران لاعباً أساسياً ومقرراً في شؤون المنطقة وملفاتها المعقدة بدل "أوهام" تغيير النظام ومخاطبة الشعب الإيراني ومصالحه كما حاول الرئيس الأميركي جورج بوش أن يفعل في آخر خطاب عن حال الاتحاد.
وحين تنقل الصحف خبر صراخ السيد محمود عباس خلال محادثة هاتفية مع وزيرة الخارجية الأميركية متسائلا عما تُرك له من صلاحيات، وتنقل بعد أيام إعلان رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة جهله بقرار عملية "حزب الله" وتنصله من المسؤولية عنها، تكون بذلك السياسة السورية - الإيرانية عبر "حزب الله" و"حماس" قد أجهضت بشكل مؤلم رجال الدولة والاعتدال لمصلحة أطراف راديكالية مسلحة قليلة الحماسة لبنى وآليات ومؤسسات يعوزها عباس والسنيورة اذا ما قررا العمل.

إسرائيل

للمفارقة فإن إسرائيل التي وفرت لـ"حماس" و"حزب الله" أسبابا وفيرة لإشعال الجبهات على نحو اشتعالها الآن تشارك سوريا وإيران الهدف المذكور أعلاه، أي إعادة رسم المعادلات الإقليمية وأدوار أطرافها وأحجامهم وفق معطيات الضعف الأميركي في العراق.
فإسرائيل التي تحولت اللاعب الرقم إثنين في الشرق الأوسط منذ حرب تحرير الكويت العام 1990 تسعى الآن الى استعادة مركزها كلاعب أول مستفيدة من انسحاب أميركا من السعودية وتعثرها في العراق وتصاعد موجة العداء لها في العالم، والأهم، ضعف إرادتها الإمبريالية المسكونة دائما بإستراتيجيات المخارج أو الـ Exit Strategies التي تعني عمليا قِصَر النَفَس حيال منطقة تتطلب أنفاسا طويلة ولا تحتمل فراغات أمنية يمكن أن يؤدي اليها استمرار فشل المشروع العراقي.
وعليـــــه فــــإن إســــرائيل التي اعتادت منذ 1990 أن تلعب وفق معطيات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط تريد العودة للعب وفق معطيات الأمن القومي الإسرائيلي غير المنسجم حتى الآن مع مشروع قيام دولة فلسطينية.
وحين يختتم السيد حسن نصرالله كلامه بتوجيه ندائه الى سنة العراق وشيعته مناشدا اياهم بشهداء السنة والشيعة العودة الى الرشد فهو يهدف الى استعادة توحيد "هلال الدم" الممتد من إيران الى لبنان مرورا بسوريا والعراق في مواجهة ما يعتبره "هلال الوهم" الأميركي بالدمقرطة في البلدان المذكورة إياها... وفي كل ما عداها...
وإذ يعدنا نصرالله، علينا أن نصدق وعلينا أن نخاف لأنه من الذين "على العهد باقون"..