قد يعتقد كثيرون ممن لا يعرفونني انني "بارد" اي بعيد من العواطف وان تمسكي بالعقلانية والموضوعية المنبثقتين من معلومات متنوعة المصادر يعكس ذلك. لكنني لست كذلك، فانا مواطن او بالاحرى انسان ينفعل ويغضب ويحب ويكره ولا يحقد الا على الذين لا يريدون للبنان ان يقوم ولشعبه ان يتوحد ولدولته ان تنهض من الركام، وفي مقدم هؤلاء اسرائيل. الا انني في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ بلادي اخترت ان ابتعد عن الكتابة العاطفية رغم وفرة مادتها وعن التحليل السياسي وغير السياسي ولا سيما بعدما صارت كل التحليلات تنطلق من الهوى والاكتفاء بعرض المعلومات التي قد تتوافر لي مع تحليل لها، طالما بقي توافرها ممكنا. ذلك ان من حق المواطن الذي يذبح في الجنوب والضاحية الجنوبية للعاصمة والمواطن الذي يهدد بالذبح في البقاع او يذبح تدريجا والمواطن الذي لن يبقى بمنأى عن الحرب المتصاعدة على بلاده في سائر المناطق علينا ان نطلعه على ما يجري من دون ادعاء انها الصورة الكاملة او التي نحن وكثيرون من اللبنانيين نراها. فضلا عن "اننا لاحقين" كما يقال على الاستناد الى العواطف في ممارستنا لمهنتنا اذا تطورت الحرب وتفاقمت وادت الى انقطاع لبنان عن العالم. وذلك الامر قد لا يكون مستبعداً.
ما هي المعلومات التي توافرت عما يجري في لبنان في الساعات الاخيرة؟
ما توافر منها من عواصم عدة دولية بينها واشنطن يشير الى الآتي:
1 - ان ايهود اولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي والمؤسسة العسكرية الاسرائيلية مقتنعان بأنهما الحقا اذى كبيرا بـ"حزب الله" ومقاوميه في الحرب التدميرية التي شناها عليهم بل على لبنان كله بعد عملية اسر الجنديين الاسرائيليين من داخل الخط الازرق يوم الاربعاء الماضي. لكنهما مقتنعان في الوقت نفسه بأنهما عجزا حتى الآن عن "تفكيك" هذا الحزب وضربه الذي صار هدفا معلنا لاسرائيل.
2 - لا يزال مبكرا التكهن بالتطور الذي قد تسلكه الحرب الدائرة حاليا في الايام أو الاسابيع المقبلة. لكن يبدو ان مجرى المعارك ومعظمها تبادل للقصف الصاروخي والمدفعي المدمر حتى الآن قد يفرض على اسرائيل استدعاء المزيد من جنود الاحتياط وخصوصا من المشاة. وهذا امر بدأ. والسؤال الذي يثيره هذا التطور هو هل انه يعني ان الحرب البرية اي اقدام اسرائيل على اجتياح لبنان او بعض منه صار احتمالا جديا وان عام 1982 قد يتكرر وان وسط ظروف مختلفة وبسيناريو مختلف؟ والجواب عن ذلك ليس متيسرا حتى الآن لكن الاقتناع بانه ليس جديا وتاليا التحوّط له لمنع حصوله من اللبنانيين واشقائهم والمجتمع الدولي سيكونان مؤذيين جدا للبنان، علما ان مصادر المعلومات وخصوصا في واشنطن تعتقد ان اولمرت لا يخطط حاليا لعمل بري كهذا في حين ان مؤسسته العسكرية تفعل وتتحسب لكل الاحتمالات والتطورات مثلما تفعل كل الجيوش ولا سيما في العالم المتقدم. لكنه قد يبدأ التخطيط لها اذا استمر اطلاق الصواريخ على عمق بلاده او اذا تكثف. ذلك ان اسرائيل "انوجعت" من مقاومة "المقاومة الاسلامية"، رغم ان وجعها لا يقاس بالوجع اللبناني ولا تريد ان توجع اكثر او بالاحرى لا تريد ابقاء القدرة على إيجاعها متوافرة.
3 - تشعر الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا ومعظم المجتمع الدولي فضلا عن معظم العرب وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية ومصر والاردن بالقلق الشديد. مبعث هذا القلق عوامل عدة. اولها، اقتناع هؤلاء ان الحرب الدائرة كشفت على نحو لا يقبل الشك عندهم حقيقة نيات "حزب الله" واهدافه ودوره او بالاحرى الدور الاقليمي المسند اليه في لبنان وبواسطته في مخططات الجمهورية الاسلامية الايرانية، وفي مخططات المحور الاقليمي الداخل مع المجتمع الدولي بزعامة اميركا او الداخل معه هذا المجتمع في مواجهة المحور المؤلف من ايران وسوريا وجهات اقليمية اخرى غير رسمية اي لا تمثل دولاً. ولذلك فإن الشاعرين بالقلق المشار اليهم اعلاه يمرون حاليا في مرحلة اعادة نظر في سياستهم حيال ايران وسوريا او بالاحرى في السياسة الواجب اتباعها حيالهما. وثانيها، ان الحكومة الاسرائيلية عازمة فعلاً والعزم قد لا يعني النجاح في ترجمته على تفكيك "حزب الله" العسكري والمنظمات الفلسطينية المتطرفة وخصوصا في قطاع غزة وان ادى ذلك الى توسيع الصراع الدائر او الحرب الدائرة حاليا بحيث يشمل او تشمل سوريا. وثالثها، الرعايا والمواطنون الاميركيون المقيمون في لبنان او الزائرون له منذ مطلع الصيف الجاري وهم كثر نظرا الى كون عدد كبير منهم من حملة الجنسية اللبنانية اضافة الى الجنسية الاميركية. وكذلك مصير رعايا الدول الاخرى وخصوصا الكبرى التي اولا تهتم بهم وثانيا تملك الوسائل لاعادتهم الى بلادهم ولاقناع فارضي الحصار البحري على لبنان بعدم الاعتراض على هذه الاعادة. وتفكر الادارة الاميركية جديا في اجلاء رعاياها عن لبنان، وقد يصبح التفكير قرارا اذا تشعبت الحرب الاسرائيلية. وصارت ايضا اجتياحا بريا سواء كان محدودا او واسعا. ذلك ان حجم هذا الاجتياح تفرضه التطورات على الوطن وليس فقط القرار داخل اسرائيل. ورابع العوامل المثيرة للقلق الاميركي والاوروبي والعربي هو موقف روسيا الاتحادية التي التقى رئيسها فلاديمير بوتين زائره رئيس اميركا جورج بوش مرتين يوم السبت الماضي في اطار زيارة رسمية بدأها لموسكو. وبحث معه في كل القضايا المهمة لهما بما في ذلك الشرق الاوسط وما يجري في لبنان. وهذا البحث سيتكرر على نطاق واسع في قمة الدول الثماني التي بدأت امس في عاصمة روسيا الامبراطورية سان – بطرسبرج.
وفي البحث الثنائي اتفق الرئيسان على ان افعال "حزب الله" غير مقبولة اطلاقا لكن اتفقا أيضاً على امور اخرى واتفاقهما مع زملائهما من الرؤساء المشاركين في القمة ضروري لاطلاق فكرة او اقتراح او مشروع او مبادرة جدية لوقف الحرب، علما ان الآمال في ذلك ليست كبيرة او كثيرة لأن ايا من الطرفين المباشرين في الحرب لم يحقق اهدافه وكذلك الاطراف غير المباشرين وما اكثرهم.
ارجو ألا يبادر "العاطفيون" الصادقون واصحاب المصالح الى اعتبار ذلك تهويلاً لأنه ليس كذلك. وان يستعدوا له بالوسائل الناجعة الموضوعية وليس العاطفية لان لا شيء يمنع ان يكون حقيقيا.