يبدو أن ردم الهوّة بين التصوّرات السائدة لانهاء الحرب، سيستدعي مزيداً من العنف الاستثنائيّ الذي ربما جاء أكثر استثنائيّةً من العنف الذي سبق. فما يجري اليوم دمج بين التفاوض، المباشر منه وغير المباشر، وبين استمرار إطلاق النار، وترك الثاني يصنع الأول ويكيّفه.

وسياق مؤلم كهذا قد يفضي الى حلّ ما مقبول لاسرائيل، التي لا تكفّ عن إبداء صلفها وعنجهيّتها، من غير أن يفضي الى حلّ مقبول للبنان. أي بلغة أخرى، قد تنتهي الحرب الدائرة الآن فيما تنفتح على مصراعيها أبواب الخلافات بين اللبنانيّين، لا بالنسبة الى مسؤوليّة الحرب فحسب بل، أيضاً، الى معنى الوطن وصيغة العيش المشترك ودور الدولة في حياتهم العامّة. فإذا نجحت الدولة العبريّة في اقتطاع جزء من الأرض، جنوب الليطاني وربما في شماله أيضاً، باتت للهزيمة قدرة أكبر على توتير الداخل اللبنانيّ وتأجيج خلافاته.

ويُستحسن القول، في الغضون هذه، ان ما يقلّل الاحتمالات الأسوأ اتفاق اللبنانيّين على مشروع ينبني على البنود الحكوميّة السبعة. وقد يقال، بحقّ، إن المشروع اللبنانيّ في قيامه على مركزيّة دور الدولة واحتكارها أدوات العنف، وفي رفضه اعتناق أية ايديولوجيّة حاكمة للاجتماع اللبنانيّ تخلّ بالعيش المشترك، كما في خروجه من النزاعات الحربيّة والمسلّحة في المنطقة، مشروع صعب إن لم يكن طوباويّاً. مع ذلك، يبدو الأخير ممكناً، بل هيّناً، بالقياس الى بديله ونقيضه المستند الى مرتكزات ثلاثة معاكسة:

أوّلاً، وجود سلاح خارج يد الدولة يشارك من موقع القوّة التي يحرزها في صنع قراري الحرب والسلام، أي عمليّاً قرار الحرب وحده.

وثانياً، وجود قضيّة حاكمة هي بمثابة الايديولوجيا الرسميّة يعتنقها المجتمع والدولة اللبنانيّان.

وثالثاً، الانخراط في المواجهات الحربيّة والمسلّحة في المنطقة، أي عمليّاً، تكريس الانفراد اللبنانيّ في خوض تلك المواجهات.

وربما جاءت الحرب الكارثيّة الراهنة لتدلّنا الى بعض أكلاف هذا المشروع الهيوليّ قتلاً وتهجيراً وفتكاً ودماراً وإفقاراً، وفي النهاية احتراباً أهليّاً مفتوحاً بين اللبنانييّن يقضي على ما تبقّى من عيش مشترك ومن وطن ودولة جامعين.

ومن هذا القبيل أحسن الرئيس فؤاد السنيورة والقادة الروحيّون في امتداحهم حزب الله، بالمعنى الذي أحسن فيه الرئيس الراحل صائب سلام حين كان يمتدح، إبّان حصار بيروت في 1982، منظّمة التحرير الفلسطينيّة.

لكن إذا كان مشروع استنهاض الدولة والوطن هيّناً قياساً بالمشروع الفنائيّ، فهذا لا يلغي انه صعب جداً، يستدعي درجة رفيعة من المسؤوليّة على نطاقي الشعب ككلّ وطوائفه واحدة واحدة. وأوّل تلك المسؤوليّة امتناع الطوائف التي لم تشارك في القتال عن استفزاز الطائفة التي شاركت، وعن تحميلها تبعات ما جرى بوصفها جماعة أهليّة - مذهبيّة لا تمييز فيها. وهي مهمّة يسهّلها ارتفاع أصوات في الطائفة التي شاركت في الحرب تؤكّد على خيار احتكار الدولة أدوات العنف وتفرّدها في قراري الحرب والسلام، وتأكيدها على طلب التنوّع السياسيّ داخلها، كما في البلد ككلّ.

أما على المدى الأبعد فلن يستطيع اللبنانيّون الفرار مما حاولوا الفرار منه طويلاً، أي مواجهة التركيبة الطائفيّة ومحاولة ترويضها التدرجيّ وصولاً الى تجاوزها. فالتركيبة هذه هي، في آخر المطاف، أهمّ مصادر تجديد الخيارات الخاطئة لدى الطوائف جميعها: بسببها، وبسبب منافساتها ومخاوفها، ذهبت كلّ واحدة من الطوائف بعيداً في جموحها، فحاولت التمسّك ببندقيتها كما حاولت فرض تصوّرها على الآخرين. وفي اللعبة المسمومة هذه قدّمت كل واحدة منها إسهامها في تحطيم وحدة الوطن وتهديم وحدة الدولة.

وأغلب الظنّ ان مقدمات كهذه حريّ بها ان تباشر ظهورها واكتشاف تعابيرها، أقلّه من أجل عبور الأيام الصعبة المقبلة والخروج منها بوعد ما يستحقّ ان يُسمّى وعداً.

لبنان: المشروع الصعب - الهيّن

حازم صاغيّة الحياة - 03/08/06//

يبدو أن ردم الهوّة بين التصوّرات السائدة لانهاء الحرب، سيستدعي مزيداً من العنف الاستثنائيّ الذي ربما جاء أكثر استثنائيّةً من العنف الذي سبق. فما يجري اليوم دمج بين التفاوض، المباشر منه وغير المباشر، وبين استمرار إطلاق النار، وترك الثاني يصنع الأول ويكيّفه.

وسياق مؤلم كهذا قد يفضي الى حلّ ما مقبول لاسرائيل، التي لا تكفّ عن إبداء صلفها وعنجهيّتها، من غير أن يفضي الى حلّ مقبول للبنان. أي بلغة أخرى، قد تنتهي الحرب الدائرة الآن فيما تنفتح على مصراعيها أبواب الخلافات بين اللبنانيّين، لا بالنسبة الى مسؤوليّة الحرب فحسب بل، أيضاً، الى معنى الوطن وصيغة العيش المشترك ودور الدولة في حياتهم العامّة. فإذا نجحت الدولة العبريّة في اقتطاع جزء من الأرض، جنوب الليطاني وربما في شماله أيضاً، باتت للهزيمة قدرة أكبر على توتير الداخل اللبنانيّ وتأجيج خلافاته.

ويُستحسن القول، في الغضون هذه، ان ما يقلّل الاحتمالات الأسوأ اتفاق اللبنانيّين على مشروع ينبني على البنود الحكوميّة السبعة. وقد يقال، بحقّ، إن المشروع اللبنانيّ في قيامه على مركزيّة دور الدولة واحتكارها أدوات العنف، وفي رفضه اعتناق أية ايديولوجيّة حاكمة للاجتماع اللبنانيّ تخلّ بالعيش المشترك، كما في خروجه من النزاعات الحربيّة والمسلّحة في المنطقة، مشروع صعب إن لم يكن طوباويّاً. مع ذلك، يبدو الأخير ممكناً، بل هيّناً، بالقياس الى بديله ونقيضه المستند الى مرتكزات ثلاثة معاكسة:

أوّلاً، وجود سلاح خارج يد الدولة يشارك من موقع القوّة التي يحرزها في صنع قراري الحرب والسلام، أي عمليّاً قرار الحرب وحده.

وثانياً، وجود قضيّة حاكمة هي بمثابة الايديولوجيا الرسميّة يعتنقها المجتمع والدولة اللبنانيّان.

وثالثاً، الانخراط في المواجهات الحربيّة والمسلّحة في المنطقة، أي عمليّاً، تكريس الانفراد اللبنانيّ في خوض تلك المواجهات.

وربما جاءت الحرب الكارثيّة الراهنة لتدلّنا الى بعض أكلاف هذا المشروع الهيوليّ قتلاً وتهجيراً وفتكاً ودماراً وإفقاراً، وفي النهاية احتراباً أهليّاً مفتوحاً بين اللبنانييّن يقضي على ما تبقّى من عيش مشترك ومن وطن ودولة جامعين.

ومن هذا القبيل أحسن الرئيس فؤاد السنيورة والقادة الروحيّون في امتداحهم حزب الله، بالمعنى الذي أحسن فيه الرئيس الراحل صائب سلام حين كان يمتدح، إبّان حصار بيروت في 1982، منظّمة التحرير الفلسطينيّة.

لكن إذا كان مشروع استنهاض الدولة والوطن هيّناً قياساً بالمشروع الفنائيّ، فهذا لا يلغي انه صعب جداً، يستدعي درجة رفيعة من المسؤوليّة على نطاقي الشعب ككلّ وطوائفه واحدة واحدة. وأوّل تلك المسؤوليّة امتناع الطوائف التي لم تشارك في القتال عن استفزاز الطائفة التي شاركت، وعن تحميلها تبعات ما جرى بوصفها جماعة أهليّة - مذهبيّة لا تمييز فيها. وهي مهمّة يسهّلها ارتفاع أصوات في الطائفة التي شاركت في الحرب تؤكّد على خيار احتكار الدولة أدوات العنف وتفرّدها في قراري الحرب والسلام، وتأكيدها على طلب التنوّع السياسيّ داخلها، كما في البلد ككلّ.

أما على المدى الأبعد فلن يستطيع اللبنانيّون الفرار مما حاولوا الفرار منه طويلاً، أي مواجهة التركيبة الطائفيّة ومحاولة ترويضها التدرجيّ وصولاً الى تجاوزها. فالتركيبة هذه هي، في آخر المطاف، أهمّ مصادر تجديد الخيارات الخاطئة لدى الطوائف جميعها: بسببها، وبسبب منافساتها ومخاوفها، ذهبت كلّ واحدة من الطوائف بعيداً في جموحها، فحاولت التمسّك ببندقيتها كما حاولت فرض تصوّرها على الآخرين. وفي اللعبة المسمومة هذه قدّمت كل واحدة منها إسهامها في تحطيم وحدة الوطن وتهديم وحدة الدولة.

وأغلب الظنّ ان مقدمات كهذه حريّ بها ان تباشر ظهورها واكتشاف تعابيرها، أقلّه من أجل عبور الأيام الصعبة المقبلة والخروج منها بوعد ما يستحقّ ان يُسمّى وعداً.