ألقى الرئيس جورج بوش الابن مؤخراً ما يعرف بخطاب "حال الاتحاد"، أو هذه الكلمة الرئاسية الدورية، التي يطل عبرها رئيس الولايات المتحدة على الأمريكيين، فيما هو أشبه بمن يقدم لهم كشفاً مستحقاً عليه بالحساب السنوي المتعلق بحصيلة سياسات إدارته الداخلية والخارجية، لكنه هذه المرة، خصوصاً إذا ما اقتصر تناولنا له على الشق الخارجي من هذه السياسة، كان الأبعد من ذلك الذي يُقدم فعلاً على مثل هذه المكاشفة العتيدة، وإنما كان الأقرب إلى من يحاول باستماتة استدراج دعم مواطنيه لاستراتيجيته القديمة المستجدة المنصبّة على محاولته إنقاذ مشروعه الاحتلالي المتعثر الكامن وراء غزوه للعراق... استراتيجيته المعروفة المرفوضة من قبل الحزبين الوحيدين اللذين يتقاسمان التبادل على السلطة في بلاده، الحزب الديموقراطي المعارض وحزبه الجمهوري الحاكم على السواء، تلك التي قدمها لهم مرة أخرى، لكن هذه المرة في حلةٍ من التعابير الجديدة التي تشي بذات المواقف الأيدولوجية المعهودة، أو التي لا جدة فيها. والمهم أنه اعتبرها "أفضل " طريق للنجاح"! بمعنى آخر لا زال الرئيس الأمريكي مصراً على الترويج لنصره الموهوم، متجاهلاً حصاد أربعة أعوام احتلال دموي تلى غزو مدمر تلطى وراء جملة من الذرائع "الاستباقية" التي تكشفت سريعاً عن قائمةٍ طويلة من الأكاذيب والمزاعم المفبركة التي لم يحفل صاحبها لتوالي ضحد الواقع لها الواحدة تلو الأخرى، بل وإلى استبدال المفضوح منها، وعند اللزوم، بأخرى جديدة لا تلبث أن تلاقي مصير سابقتها، وهكذا... وصولاً إلى حصاد تمثل في عراق دمّرت فيه كل أسس الدولة، وشعب يعاني مذبحةً مستمرة ضحاياها حتى الآن ما يقارب ثلاثة أرباع المليون ضحية، وتسببت في تهجير المليونين إلى الخارج، بالإضافة إلى نصف هذا العدد في الداخل.

لقد خاطب الرئيس الأمريكي شعبه وكأنما هو مقتنع بأنه لا يعلم أحد فيه أن دافعي الضرائب منه قد موّلوا هذه المذبحة، الناجمة عن استمرار الغزو، عبر خسارتهم المباشرة لما يقارب الأربعمائة بليون دولار،أو كأنما من يستمع إلى خطابه هم فحسب المحافظون الجدد وشركات النهب المستمر لثروات العراق، من نوع هالي بيرتون وأخواتها... أو كأنما لا حد في بلاده قد أدرك بعد مدى استفحال ورطتها العراقية المستحكمة، أو هذا الفشل المتدرج لمشروعها الاحتلالي هناك، أو فداحة تداعيات حماقات الإدارة المتدحرجة المترافقة مع تهافت ذرائعها المتسلسلة المتبدلة، تلك التي تساق في معركته الأيدولوجية التي يصفها بالحاسمة في هذا العصر!
واللافت أن الرئيس الأمريكي لم يعد يحفل أيضاً بالنتاقضات التي يزفها في خطاب واحد. فهو إذ يقول للأمريكيين أن "بوسعنا إيجاد طرق عملية للدفع بالحلم الأمريكي قدماً"، ويطالب الكونغرس بإعطاء استراتيجيته العتيدة "فرصة للنجاح" يعترف لهم بأن "هذه ليست الحرب التي أردنا خوضها في العراق، لكن هذه هي الحرب التي نخوضها اليوم". بمعنى دعوتهم للقبول بهذا القدر الاستباقي الذي سعت إليه إدارته بظلفها، حاثاً إياهم على تقبل ذلك القدر بالقول "ليس هناك شيء أهم في هذه اللحظة من تاريخنا أكثر من أن تنجح أمريكا في الشرق الأوسط، أن تنجح في العراق، وأن توفر على الشعب الأمريكي هذا الخطر".
أن تنجح في ماذا، وأي خطر يعني؟!

أن تنجح في تحقيق استراتيجيته الباحثة عن طرق يراها تؤدي إلى حيث يتحقق الحلم الإمبراطوري الذي يسعى إلى تحقيقه، والتي من شأنها، سواء تحققت أو لم تتحقق، وهي لن تتحقق، أن تلهب واقعاً عراقياً مشتعلاً وتصبّ عليه المزيد من زيت الفتنة الطائفية والعرقية المدروسة، ومن ثم تعميم هذا النموذج المراد في المنطقة، الأمر الذي لا نبالغ إذا ما قلنا بأن تباشير مثل هذا التعميم قد بدت تلوح إرهاصاتها عربياً... أما أي خطر؟ فهنا علينا أن نلاحظ أن بوش، وكعادته منذ كارثة 11 سبتمبر المعروفة، يدق على وتر تخويف الأمريكان واستثارت غرائزهم الوطنية بكلام مثل:
"من أجل سلامة شعبنا يجب أن تنجح أمريكا في العراق"! لأن هذا النجاح هو ضرورة "كي لا تتعاظم قوة المتطرفين ويزداد مناصروهم". ولكي لا يعمدوا "للانقلاب على الحكومات المعتدلة وخلق الفوضى في المنطقة، واستعمال عائدات النفط لتمويل طموحاتهم" هذه. ويمضي ليقول:

أن "أعداء أمريكا واضحون جداً حيال نواياهم، إذ أنهم يريدون إطاحة حكومات معتدلة، وتأسيس ملاذات آمنة يمكنهم من خلالها التخطيط وتنفيذ هجمات جديدة ضد بلادنا"!

لكن الأطرف أن الرئيس بوش، الذي هو بدوره واضحاً، يبرر إرساله المزيد من الجنود إلى ساحة الحرب العراقية باريحيته التي تريد "مساعدة الحكومة العراقية على استعادة عاصمتها". الأمر الذي يعني أنه حتى هذه العاصمة قد خرجت على سيطرة الغزاة، وبالتالي فأن حكومة ما بعد الغزو التي أرادوها هي منذ أن أقاموها بلا عاصمة، بل أسيرة ما تسمى بالمنطقة الخضراء!
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن خطة السيطرة على بغداد التي ترجمت في الأيام الأخيرة مشاهد دموية ودماراً مريعاً في شارع حيفا، على سبيل المثال، قد بشّر وزير الحرب روبرت غيتس الأمريكان بأن لا ضمان لنجاحها، وعليه، يسعى الغزاة أمس واليوم وغداً في العراق لإخراج آخر ورقة في جعبتهم وهي إثارة الفتنة الطائفية، المثارة أصلاً، لتبرير بقائهم هناك، لكن جل مساعيهم اليوم تنصبّ على محاولة تعميمها في ما أمكن من الوطن العربي والجوار الإسلامي عبر ذريعة جديدة هي فزّاعة "الخطر الإيراني"، هذا الذي تٌنصب الصواريخ حتى في تشيخيا وبولندا لمواجهته، أو "لتطويق التهديد الشرق أوسطي"! وترسل حاملات الطائرات إلى الخليج لصده وردعه، وتصل وزيرة الخارجية كونداليسا رايس إلى المنطقة مبعوثة في مهمة حشد "المعتدلين" ضده، ويكرر كلٍ من بوش، وتشيني وغيتس، أن البقاء العسكري الأمريكي في المنطقة هو إنما ضرورة من ضرورات مواجهته!

في خطاب "حال الاتحاد"، الأقرب إلى خطاب حال الإدارة، كرر بوش، كما هو حاله منذ قدومه إلى البيت الأبيض، نفسه، لكنه اعترف بأنه يخوض حرباً لم يكن يريدها من حيث النتائج والتداعيات على هذا النحو الذي يجري، والأهم أنه اقترح "إقامة مجلس استشاري خاص حول الحرب على الإرهاب مؤلف من مسؤولين من الحزبين السياسيين" تكون مهمته هي إدارتها في العراق وسائر ساحاتها الواسعة وسع العالم!

لكن بوش هذه المرة صنف "الإرهابيين" ومنحهم درجات من حيث خطرهم، إذ تأتي، على سبيل المثال، القاعدة أولاً، وحزب الله ثانياً. كما أنه ساوى لأول مرة أيضاً، بين السنة والشيعة من بين هؤلاء قائلاً: أن "المتطرفين من الشيعة والسنة وجهان مختلفتان للتهديد الاستبدادي"... وأن الشيعة منهم "مصممون على السيطرة على الشرق الأوسط"!

...والآن، ما هو صدى خطاب بوش، أو قل حملة تسويق استراتيجية بوش الدموية في المنطقة أمريكياً؟

أول الغيث، كان أن اعتمدت لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس مشروع قرار غير ملزم يرفض قرار بوش زيادة عديد القوات في جيشه المحتل في العراق، ويصفه بأن "يتعارض مع المصالح القومية للولايات المتحدة".القرار قُدم من قبل شيخان ديموقراطيان وآخران جمهوريان... قرار وصفه رئيس اللجنة جو بيدن بأنه "محاولة لإنقاذ الرئيس من ارتكاب خطأ مهم فيما يتعلق بسياستنا في العراق". لكن نائب الرئيس ديك تشيني، في إشارة إلى مثل هذا التحرك من قبل الكونغرس، رد فأعلنها صريحة: إن "هذا لن يوقفنا"!!!

إذن، الإدارة الأمريكية لن تتوقف أو توقف برنامجها، لا في العراق، والأنموذج هنا هو ما يجري في شارع حيفا... ولا في فلسطين، بعد أن أحيلت المسألة، بعد طول كلام عن خارطة الطريق من قبل هذه الإدارة، إلى ما تدعى اللجنة "الرباعية"... ولا في لبنان، حيث تم عملياً تمويل الفتنة في مؤتمر باريس بعد منع التوافق بين اللبنانيين في بيروت... ولا في المنطقة بأسرها...

نعم، لعل ما ألقاه بوش مؤخراً ليس خطاب حال الاتحاد بقدر ما كان خطاب حال الإدارة... أي أنه لم يكن كشف حساب بقدر ما كان استدراج دعم لاستراتيجية يجمع حتى الأمريكان على فشلها، وإعلان يرتدي حلة من تعابير أيدولوجية يقول: أن الجموح الإمبراطوري لهذه الإدارة لوثة مستحكمة، ومسار ليس في مقدورها التراجع عنه!