البيان / حسين العودات

ليست العلاقات الأوروبية ـ العربية و(الأوروبية ـ المتوسطية) حديثة العهد ولا وليدة عصرنا الحالي، إذ يتجاوز عمرها خمسة وعشرين قرناً، امتدت منذ الفينيقيين والقرطاجيين باتجاهها ثم إلى الإسكندر المقدوني والإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية باتجاهنا واستمرت في العصر الوسيط والعصور الحديثة فشهدت الفتح الإسلامي للأندلس وإسبانيا والغزو الفرنجي (الصليبي) لشواطئ المتوسط الشرقية ثم جائحات الاستعمار الأوروبي لمعظم البلدان العربية، وصولاً لما نحن فيه.

لم تكن هذه العلاقات سمناً على عسل دائماً فقد تخللتها من جهة النزاعات والحروب والاحتلال والاستعمار، كما دخل في نسيجها من جهة ثانية التبادل الثقافي والعلمي والفني والفلسفي والاستفادة من الخبرات، فكانت السلبيات يقابلها إيجابيات. فهي والحالة هذه ليست شراً كلها، بل كانت خلاصة لطبيعة الأمور بين الدول والمنظمات الإقليمية في ظروف كل عصر ومفاهيمه ومصالح الدول في ضوء ظروفه وشروطه، وكانت الجغرافيا والتاريخ والمصالح الاقتصادية دائماً هي الحاضن لهذه العلاقات التي تحدد أبعادها وسماتها ومجرياتها ونتائجها ومازالت كذلك.

يضم الاتحاد الأوروبي الآن سبعاً وعشرين دولة، ويشكل تجمعاً إقليمياً أساسياً في عالم اليوم، سواء من حيث قوته الاقتصادية أم السياسية أم العلمية أم النفوذ الدولي الذي لا يفوقه سوى قوة الولايات المتحدة الأميركية ونفوذها، وتشير المعطيات جميعها أن قوة الاتحاد الأوروبي تتنامى باستمرار وقد تكون مستقبلاً نداً حقيقياً للولايات المتحدة في مختلف المجالات. ويحاول الاتحاد الأوروبي وخاصة الدول الفاعلة فيه توسيع مجالها الحيوي وخاصة علاقاتها مع دول حوض المتوسط، ولذلك صدر إعلان برشلونة الذي نتجت عنه اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية والتي تم تصديقها والعمل بها من قبل معظم البلدان العربية.

إذن تحاول بلدان أوروبا (المجموعة الأوروبية وكل من دولها) بدأب ونشاط لتمتين العلاقات مع البلدان العربية ولذلك فأول ما يسارع إليه كل رئيس جديد لهذا الاتحاد (تتناوب الدول الرئاسة كل ستة أشهر) هو زيارة بعض الدول العربية واستكشاف إمكانية تطوير العلاقات معها والبحث عن واجبات الدور الأوروبي ومتطلباته وهذا ما فعلته السيدة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا مؤخراً، حيث زارت عدة بلدان عربية وعبرت عن رغبتها في المشاركة الجادة (باعتبارها رئيسة الاتحاد) في حل قضايا الشرق الأوسط المستعصية.

تشكو البلدان العربية من أن الدول الأوروبية (اتحاداً وفرادى) لم تبذل كل ما في وسعها لمساعدتها على حل مشاكلها، وخاصة في موقفها من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان، وتجاه الممارسات العدوانية الإسرائيلية في العدوان والقتل والتدمير والأسر وبناء الجدار العنصري.

فما زالت مثلاً تعتبر المقاومة إرهاباً وتنتصر لإسرائيل في كل مناسبة وتتجاهل جرائمها تجاه الفلسطينيين والعرب الآخرين تحت شعار مكافحة الإرهاب أو أي شعار آخر، كما أن المساعدات الأوروبية للبلدان العربية ضئيلة جداً ولا تشكل سوى فتات، ولا تعوض عن عشرات بل مئات السنين من الاستعمار الأوروبي لبعض هذه البلدان ونهب خيراتها، فضلاً عن موقفها السلبي المستتر من الإسلام والثقافة الإسلامية ومن الجاليات العربية والإسلامية فيها وما تواجهه من مضايقات قانونية وعملية، والاستجابة ـ في الغالب الأعم ـ لطلبات الولايات المتحدة وتوليف مواقفها بما يرضي السياسة الأميركية تجاه القضايا العربية.

لا يزعم أحد أن أوروبا قادرة على التمرد على السياسة الأميركية ولا يطالبها أحد بذلك، وإنما هي مطالبة بمواقف أكثر جدية تجاه الحقوق العربية والتذكر دائماً أنها شريكة في خلق المصائب التي يواجهها العرب سواء منها تأسيس دولة إسرائيل أم مشاكل التنمية والتخلف، ومن المهم تذكير الأوروبيين أنهم هم الذين شجعوا الهجرة إلى بلادهم بعد الحرب الثانية لحاجتهم لليد العاملة وأن المهاجرين ساهموا في بناء أوروبا، ومن غير العدل لا أخلاقياً ولا قانونياً مضايقتهم الآن وإيجاد الشرط الموضوعي لهجرة معاكسة.

أما الصورة النمطية عن العرب والمسلمين والتي تتعمق يوماً بعد يوم في ثقافة الشعوب الأوروبية، فقد ساهم في تشكيلها المستشرقون والمستعمرون والفاتحون والشركات الاحتكارية، ومن واجب المؤسسات الأوروبية الحكومية وغير الحكومية الآن أن تعمل لتغيير هذه الصورة لا تعميقها وتوضيحها لا تسويدها على الأقل في المناهج المدرسية ووسائل الإعلام والثقافة، كما من واجبها من جانب آخر أن تساهم مساهمة جدية في إنجاح مشاريع التنمية العربية سواء بتقديم المساعدات المجزية مثل تلك التي قدمتها لدول أوروبا التي انتسبت مؤخراً للاتحاد (27 مليار لبلغاريا ورومانيا مثلاً) أم بالمساعدات التقنية والعلمية والخبرات وغيرها، وان تعتبر هذا كله واجباً لا منة وتعويضاً عن مراحل طويلة من استعمار البلدان العربية واستنزافها.

من المهم تذكير السيدة ميركل والأوروبيين عامة أن مواقفهم المترددة تجاه الحق العربي والمؤيدة واقعياً للسياسة الإسرائيلية وممارساتها، ومحاولات إرضاء العرب بالتصريحات والكلام، والسعي لتحقيق مصالحهم وخاصة في مجال الحصول على مصادر الطاقة وممالأة السياسة الأميركية والإسرائيلية في الآن نفسه، هذه كلها ليست خافية على العرب الذين يتمنون بإخلاص ويعملون قدر استطاعتهم لتوسيع علاقاتهم مع أوروبا وتعميقها وتأكيد التعاون الخلاق بين الطرفين لأنهم يدركون أهمية الجوار الجغرافي وإمكانية تكامل المصالح معها. ويعتقدون أن بالإمكان أن تكون أوروبا شريكاً حقيقياً وحليفاً طبيعياً للعرب حاضراً ومستقبلاً.

لاشك أن البلدان العربية ترحب بتوسيع وتعميق وتنويع العلاقات بينها وبين أوروبا والدول الأوروبية على أسس جديدة واضحة الأهداف والأساليب والحقوق والواجبات على أن تكف بعض الأوساط الأوروبية عن اعتبار مواقفها الرخوة وفتات مساعداتها منة منها للعرب، فالعلاقات المتوازنة شيء آخر لابد أن يأخذ واقع الجغرافيا والتاريخ بعين الاعتبار.

نعود دائماً للبديهية التي تقول إنه لو أنجز العرب نظامهم وأقاموا تجمعهم الاقتصادي وكرسوا وحدة قرارهم لاستطاعوا (إقناع) الأوروبيين وغير الأوروبيين بأهمية التعاون معهم، وباحترام مصالحهم والاعتراف بحقوقهم ولتجنبوا السياسة المزدوجة التي يواجهونها اليوم من دول العالم المتقدمة والقوية وأجبروا الدول الأخرى أن تلتزم بوقفة مسؤولة تجاه القضايا العربية.