فقط من يحيا في الضفة الغربية وقطاع غزة يستطيع أن يتفهم مشاعر الفرحة العارمة التي عبر عنها الفلسطينيون إثر التوقيع على إتفاق مكة بين حركتي حماس وفتح برعاية خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز. لقد أوقف هذا الاتفاق إندفاع الفلسطينيين الجنوني نحو حرب أهلية طاحنة، إلى جانب أنه منح الفرقاء في الساحة الفلسطينية الفرصة لتنمية الثقة فيما بينهم، مع العلم أن هذه الثقة كانت مفقودة. لكن بقدر ما يزرع هذا الاتفاق من أمل في أن يشكل نقطة تحول فارقة يمكن أن تغير من طبيعة الأداء الوطني الفلسطيني بحيث تعزز مصادر القوة في الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون من أجل نيل حريتهم المسلوبة، بقدر ما تزداد المخاوف من إمكانية أن ينهار هذا الاتفاق، ويعود الفلسطينيون مجدداً للمربع الدامي الذي سبق التوقيع على الإتفاق. لا نطرح هذه المخاوف لمجرد الرغبة في تقديم توقعات سوداوية متشائمة، بل من أجل لفت نظر قادة كل من حماس وفتح والرأي العام الفلسطيني الى المخاطر التي تتربص بهذا الاتفاق، حتى يتم مواجهتها والتصدي لها بقوة. ولعل أكثر خطر يتهدد إتفاق مكة هي الضغوط الخارجية التي باتت تنهال من كل حدب وصوب على الرئيس الفلسطيني محمود عباس والطاقم الذي يعمل معه. وها نحن نلحظ شروع الأمريكيين والإسرائيليين في ابتزاز أبو مازن، ومحاسبته لأنه تجاهل نصيحة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس بعدم الموافقة على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بمشاركة حماس. وها هي الإدارة الأمريكية تلمح الى أنها لن تعترف وتتعاطى مع حكومة الوحدة الوطنية حتى لو شاركت فيها حركة فتح، لأن هذه الحكومة لا تعترف بشكل علني وصريح بإسرائيل ولا تنبذ " الإرهاب " أي عمليات المقاومة ضد الاحتلال التي تجيزها كل القوانين الدولية، ولا تلتزم بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة وإسرائيل. في حين يقوم الإتحاد الأوروبي بعملية ابتزاز بطريقته الخاصة في محاولة لدفع ابو مازن للضغط على حركة حماس مجدداً لتقديم تنازلات وصولاً للإعتراف الصريح بإسرائيل، وربط استئناف المساعدات المالية للسلطة بموافقة الحكومة الجديدة على شروط اللجنة الرباعية المجحفة. للحقيقة أن وضع أبو مازن صعب، لكن هنا تكمن اللحظة التي تختبر فيه أصالة القادة وصل ابة إلتزامهم بقضاياهم الوطنية، هذه اللحظات التي تحفظها صفحات التاريخ للقادة إما سلباً، وإما إيجاباً.

على أبو مازن أن يتبع استراتيجية جديدة في مواجهة الضغوط الخارجية لم يتبعها من قبل للأسف الشديد. عليه أن يطرح السؤال الآتي على الإدارة الأمريكية وللإتحاد الأوروبي وكل دول العالم: " لقد إعترفت منظمة التحرير بإسرائيل ونبذت الإرهاب وتعلن صباح مساء التزامها بالإتفاقيات الموقعة مع الدولة العبرية، فماذا قدمت اسرائيل بالمقابل ؟. على أبو مازن أن يسأل أبواق النفاق العالمي : لماذا على الفلسطينيين أن يتحولوا تجار في بازار هزلي، يعرضون فيه كل يوم تنازلات جديدة؟ . فهم يطالبوننا بأن نعترف بإسرائيل، فلماذا لا يطالبون إسرائيل بأن تعترف على الأقل بأنا لنا الحق في إقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 67، وهو الحد الأدنى الذي يطالب به الفلسطينيون. لماذا لا يلزمون إسرائيل بوقف فرض الحقائق على الأرض عبر مصادرة المزيد من الأراضي للإستيطان، الذي هو حسب محكمة لاهاي الدولية جريمة حرب. ومع كل ذلك، فأن الأمريكيين والإسرائيليين عندما يتحدثون عن تسوية سياسية، فهم يتحدثون عن عملية سياسية نظرية لا تصل إلى أي نتيجة. وها أنا هنا أطرح ما سيقوله كل من أولمرت ورايس لأبو مازن في اللقاء الثلاثي الذي سيجمعه بهما الإثنين القادم في القدس المحتلة: نحن معنيون بمفاوضات تنطلق وفق خطة " خارطة الطريق "، بدون التنازل عن أي مرحلة من مراحلها. وسيشدد اولمرت ورايس على تطبيق المرحلة الأولى من الخطة، والتي تطالب السلطة الفلسطينية بتفكيك حركات المقاومة الفلسطينية ( وضمنها حركة حماس التي تشكل الحكومة !!)، ووقف العمل المقاوم ضد الاحتلال، ومحاربة التحريض ضد إسرائيل في مناهج التعليم ودور العبادة ووسائل الاعلام. ويدرك أبو مازن أن مثل هذه المطالب تعجيزية، الى جانب أن محاولة الوفاء بها ستؤدي حتماً الى حرب أهلية فلسطينية، مقابل الوهم الذي تحاول واشنطن وتل ابيب تسويقه. على أبو مازن أن يدرك أن حركة حماس قدمت في إتفاق مكة تنازلات كبيرة جداً ليس فقط مقارنة بميثاقها المعروف، بل وتراجعت كثيراً عما ورد في برنامجها الإنتخابي. فحماس هي التي اقتربت من برنامج حركة " فتح "، وليس العكس. من هنا على أبو مازن ألا يقع في الشرك الذي تنصبه له إسرائيل التي تصور إتفاق مكة وكأنه انتصار كبير لحركة حماس. فعندما تعترف حركة حماس بمقررات القمة العربية تقف عند نفس المستوى من المرونة السياسية التي وقفت عندها حركة فتح. وعلى أبو ابومازن أن يعلم أن وقوفه بقوة خلف اتفاق مكة وتمسكه بوشاج الوحدة الوطنية الفلسطينية كفيل بأن يدفع الأوروبيين وفي وقت لاحق الأمريكيين للاعتراف بالواقع كما هو على الأرض. من ناحية ثانية على الرئاسة الفلسطينية وعلى حكومة الوحدة العتيدة الشروع في حملة اعلامية مضادة ضد الحكومة الإسرائيلية، تستند الى توثيق شامل للمواقف الإسرائيلية المتطرفة، سيما لأولمرت واركان حكومته وكبار قادة جيشه، للتدليل على أن إسرائيل غير جاهزة للتسوية السياسية. الى جانب ذلك على الحكومة الجديدة أن تملي أجندة سياسية مغايرة على الجدل الوطني الفلسطيني الداخلي، بحيث تبرز ضرورة مواجهة الإستيطان والجدار ومقاومة عمليات التهويد، وغيرها من القضايا التي تشكل محور الإجماع الوطني الفلسطيني.