الاتحاد / توماس فريدمان

في أحد المباني الشاهقة التي يطل منها الرائي على ضريح لينين، تنشغل شركة "بوينج" الأميركية العملاقة، بتصميم الأجزاء الرئيسية من طائرتها الجديدة من طراز "دريم لاينر 787"، مستخدمة في ذلك المئات من مهندسي الطيران الروس. وربما شدد الرئيس فلاديمير بوتين من لهجة الحرب الباردة التي يتحدث بها هذه الأيام، غير أن صناعة الطيران الأميركية، تواصل استخدامها لكنوز الموهبة الذهنية البشرية الروسية، في تطوير جيلها الجديد من طائراتها النفاثة. والجدير بالذكر، أن هذا التعاون التقني الأميركي- الروسي، إنما يتم على بعد أمتار فحسب من مبنى الكرملين. وما "مركز تصميم طائرات البوينج" المشار إليه، سوى تجسيد حي للقدرات الكامنة الحقيقية لدولة مثل روسيا. وأعنى بهذا أن روسيا تعد مثالاً لتلك الدولة الفريدة التي لا تتمتع بكنز غني من الموارد الطبيعية من النفط والغاز فحسب، بل إن فيها ذلك الكنز الغني الفريد من الموهبة البشرية الخلاقة، خاصة المهندسين وعلماء الرياضيات وغيرهم من ذوي العقول الهائلة.
والشاهد أن غالبية الدول التي تتمتع بمزايا الموهبة البشرية الكبيرة، مثلما هو حال سنغافورة وتايوان، لا يكون لها إلا القليل جداً من الموارد الطبيعية النادرة الشحيحة. أما تلك الغنية منها بالموارد الطبيعية، مثلما هو حال فنزويلا والسودان، فهي تبدي ميلاً دائماً للامتناع عن تطوير القدرات والمواهب البشرية الخلاقة لمواطنيها. أما الاستثناءات النادرة في مثل هذه الحالات، كما هو حال النرويج التي تجمع بين غنى النفط والموارد الطبيعية الأخرى، وكنوز المواهب البشرية، فالأغلب أن تكون قد سبقت إلى تطوير مؤسساتها الديمقراطية، قبل اكتشاف النفط فيها، ولذلك فقد أحسنت استخدامها لاحقاً لعائدات النفط وموارده الهائلة.
وعليه فالسؤال الذي لابد من إثارته هو: هل تكون روسيا دولة أقرب إلى النرويج، أي نموذج الديمقراطية التي أغناها النفط، أم تكون دولة أقرب إلى فنزويلا... أي نموذج الديمقراطية التي قوَّضها وخربها النفط؟ وتبعاً للسؤال نفسه، لابد من الاستفسار عما إذا كان "مركز تصميم طائرات بوينج" الذي يقع في قلب العاصمة موسكو، مؤشراً على هذا المستقبل الديمقراطي الاقتصادي الزاهر، أم أنه مجرد استثناء ناشز لا أكثر؟
الحقيقة أنه في وسع المرء أن يرى مؤشرات على كلا الاحتمالين. ففي الجانب الإيجابي، تبدو روسيا أكثر ذكاءً من كثير غيرها من الدول النفطية. وخير شاهد على ذلك ادخارها لمبلغ 100 مليار دولار من عائداتها الحالية من مبيعات النفط والغاز الطبيعي. وفي الوقت ذاته، بلغ حجم عائداتها من الاستثمارات المباشرة فيها، نحو 30 مليار دولار في العام الماضي وحده، وفقاً لمجلة "ذي إيكونوميست" التي أضافت أن تلك العائدات لم تعد تنفق على قطاع النفط والغاز الطبيعي، كما كان يحدث سابقاً. ثم هناك "شركة بوينج" التي تعمل على أساس دوامين، من الساعة السابعة صباحاً وحتى الثالثة ظهراً، ثم دوام آخر من الساعة الثالثة ظهراً وحتى الحادية عشرة مساء. ويشار إلى أن تلك البداية تسبق بداية يوم العمل الأميركي بقليل جداً. وربما يبدأ المهندس الروسي يوم عمله بتصميم جزء ضئيل من مقدمة طائرة "بيونج 787"، ثم ينتقل بعدها إلى تخزين ما قام بإنجازه خلال الدوام الصباحي في جهاز الكمبيوتر. ثم يعقبه في مواصلة ما تم تصميمه مهندس أو مهندسة أميركية، تبدأ من النقطة التي انتهى إليها زميلها الروسي، خلال فترة الدوام المسائي. وبفضل انتظام المؤتمرات المهنية التي تعقد من على بُعد، يبدو جميع مهندسي ومصممي الشركة، كما لو كانوا يعملون معاً في مكتب واحد، يتواصل العمل فيه على مدار اليوم. ولكن بسبب سلبية الإرث السوفييتي في مجال صناعة الطيران، فإنه لا يزال عليها وعلى شركائها الأميركيين في هذا المجال، توفير النظم الاقتصادية الكفيلة بصيانة أمن حقوق الملكية الفكرية، وحفز رؤوس الأموال والمواهب الإبداعية الخلاقة في هذه الصناعة. وعلى الشركاء في هذه الصناعة، أن يدركوا أن عبارة "صنع في روسيا" لن تمنح هذه الطائرات سمعة عالمية، طالما بقي حجم إنفاق الشركات الروسية على مجال العلم والبحوث، الأدنى عالمياً على الإطلاق. إلى ذلك يضاف ما نشرته صحيفة "موسكو تايمز" مؤخراً، عن إدراج جامعتين روسيتين فحسب، هما جامعتا موسكو وبطرسبورج، بين أفضل 500 جامعة وكلية عالمية. وإذا ما سار المرء في أي من شوارع بنجالور –عاصمة التقنية المتقدمة في الهند- فسيرى أن شارعاً واحداً من شوارعها لا يخلو من محل للكمبيوتر، أو مدرسة لتعليم اللغة الإنجليزية. أما من يسير في العاصمة موسكو، فيخيل إليه أن شارعاً واحداً من شوارعها فحسب، قد يخلو من محل للأحذية أو صالون لتجميل النساء. وشتان ما بين عاصمة وأخرى!
وبهذا أصل إلى تكهني الرئيسي بما سيكون عليه مستقبل روسيا. فما عليك إلا أن تخبرني بأسعار النفط العالمي، لكي أقول لك ما ستكون عليه روسيا الغد. فإذا ما استقر هذا السعر على 60 دولاراً للبرميل الواحد، فالأرجح أن تكون روسيا دولة أقرب إلى فنزويلا، بسبب غرق قادتها في الأموال، ما يغريهم بالسير وفق نوازعهم الأتوقراطية القابضة. أما في حال انخفاض أسعار النفط العالمي إلى 30 دولاراً للبرميل الواحد، فالأرجح أن تكون روسيا دولة أقرب إلى النرويج. وليس مستبعداً أن تتحول روسيا إلى دولة أقرب إلى أميركا، في حال انخفاض السعر إلى 15 دولاراً. وحينها فسيكون لزاماً عليها النهوض بمهارات ومواهب أجيالها الحديثة، بسبب افتقارها للمال.