الإنسان كائن غريب بحق! لاشيء يشبعه، لاشيء يرضيه، لاشيء يكفيه! كلما أشبعت له حاجة، توالدت لديه حاجات جديدة تبدأ من الضروريات، ولا تنتهي إلا بطيف من الرغبات التي تصل إلى حد لاعقلاني أو سريالي، قد لا يدرك فيلسوف ولا مفكر ولا دعيّ أين مكمن مثل هذه الرغبات والحاجات ليفهم ما وراء سعي الإنسان إلى الحيازة والملكية بهذه المبالغة وهذا الجشع، رغم أنه يمضي وحيداً إلى مصيره الذي كان في طفولة التاريخ عالماً سفلياً، أو عالم الظلمات، ثم تحول إلى العالم الآخر حيث الثواب والعقاب، وحيث لا يأخذ من ملكيته شيئاً على الإطلاق سوى قطعة قماش تلفه، وما دائماً يرتدع هذا، الضعيف في أعماقه، عن الظلم والقهر والقتل والإيذاء وهو يحيا حياته القصيرة، ليلبي جشعه الغريب، الذي لم تستطع كل القيم الروحية والإنسانية معالجته: ينال البيت فيطلب القصور، ينال الرغيف فيطلب المزارع، ينال الثوب الدافئ فيطلب حرير القز، يولد مواطناً في شمال الأرض فيطلب وطن أهل الجنوب، يعيش على الأرض لحكمة ما.. فيطلب النجوم والكواكب..

الزهد والقناعة خير زاد وأفضل زوادة في الحياة! أحاول دائماً إقناع نفسي بهذه القاعدة الأخلاقية الرائعة، ريثما تتم رحلة حياتي القصيرة التي مهما طالت فنهايتها محتومة، والتي مهما ميّز الأحياء الباقون نهايتها، وأقاموا من أجلي الطقوس وكوّموا فوق قبري الورود فإنها مطابقة لأي رحيل متواضع، إذ نكون جميعاً (مهما اختلفت أشكال حياتنا) وحدنا في ذلك التراب! أحاول إقناع نفسي بالزهد كي لا أعذبها في الجري وراء الحيازات، فماذا أريد أكثر من أنني أعيش في بلاد حباها الله (عكس بلاد العالم) بكل ما يجعل الحياة على هذا الكوكب شبيهة بالجنة الموعودة؟ بلاد لا أمية فيها ولا جهل ولا بطالة، ولا تلوث، بلاد لا يهددها احتلال ولا دبابات ولا صواريخ، ولا اختراق ثقافي، بلاد لا فوارق طبقية فيها تجعل من حفنة من الناس تمسك بلقمة الآخرين وتحدد لهم بالأرقام مقدار الرفاهية التي يستحقونها.. أستيقظ في الصباح وقد نمت ليلي نوماً قريراً، لأنه لا هموم لديّ ولا معضلات أفكر فيها خلال الليل! أفتح نوافذي في حارتي الشعبية ببيوتها المتقاربة كقرص خلية النحل، فتتدفق إلى مخدعي روائح الفل والأكاسيا.. أتمطى في المطبخ، قرب الموقد، الذي سأرفع عنه قهوتي وأستمتع بمذاقها، في صمت الصباح الذي لا يعكره شيء! أقلب الصحيفة التي يواظب ساعي البريد على موافاتي بها دون أن يخلَّ بموعده اليومي: الله، هذه الأخبار تثلج الصدر حتى يكاد ينفجر من السعادة (إذ إنها بدورها ثقيلة على القلب كالأحزان): أطفال المدارس ينعمون بأبنية مسورة بالورد، ومعلمين أكفاء ألطف من الآباء، طلاب الجامعات يستأنفون تعليمهم العالي دون عوائق، البحوث العلمية تنتج ثمارها العظيمة وتتفاعل مع بحوث العلماء في كل العالم، دوران عجلة العمل مستمر بحيث شطبنا مشكلة البطالة من التداول، الريف غدا أرقى من المدينة إذ تنعم بالخدمات إلى درجة أنه بدأ يخرّج الطلبة من جامعاتهم وما عادوا بحاجة إلى الانتقال إلى المدن وتكبيد أهلهم عبء المصاريف، والسكن في المدن الجامعية التي ضاقت باستيعابهم، افتتاح دور الثقافة مستمر في الأحياء الصغيرة، شرطي المرور الأنيق، يستخدم خرائط دقيقة لإرشاد زائري المدن الجدد، لا يمدّ يده إلى سائق إلا لتحيته وشكره (بينما هو في بلاد أخرى كقاطع الطريق وجابٍ للضريبة المحتومة التي كانت تسمى في بلادنا في أزمنة آفلة: رشوة)، كل شخص في مؤسسة الحياة المعقدة يعرف واجبه ويؤديه دون زيادة ولا نقصان، فلا حسد، ولا نميمة ولا حروب نفسية، ولا مكائد، ليتقدم واحد بلا كفاءة على زميله ذي الخبرة بوسائل لاأخلاقية! أصلّي لربي شكراناً على الجنة التي أعيش فيها، وأطوي الجريدة شاكرة للإنسان الذي ابتدعها وسماها وسيلة (إعلام)، لأنها تعلمني بما هو بعيد عني، وتحمل عبء الإنْباء بما يشبه النبوة، وأستعد للخروج إلى عملي بنفسية من سيذهب إلى حفل موسيقي كلاسيكي، لكني أشعر فجأة بذلك الفراغ المنهك في قلبي! ما هذا؟ ماذا تريدين أيتها النفس التي لا تشبعين ولا تلجمين رغباتك؟ ماذا ينقصك؟ في الواقع ما ينقصني هو مطرب طروب يسعدني بعد أن اختفت كل همومي.. واكتشفت معها اختفاء كل الأصوات العبقرية لأنها اهترأت بفعل تقدم العصر، فلا أم كلثوم ولا فيروز ولا عبد الوهاب ولا عوض الدوخي، ولا ناظم الغزالي، ولا عبد الوهاب الدوكالي ولا وديع الصافي باتوا لائقين بمستمع العصر (بفضل وسائل الإعلام طبعاً) أما الشيخ إمام فهو شبه محظور لأنه مثير للشبهات منذ زمن بعيد، وأما سعدون جابر فكأنه رمز للديكتاتور ومسؤول عن كل الدم الذي يسيل على أرض الرافدين..

وأما شهرزاد وصالح عبد الحي وأسمهان ومحمد خيري ومصطفى ماهر فأسماء عفا عليها الزمان ولا أحد يسمع أصواتهم الميتة، والحضارة دون موسيقى وغناء شجي صادق، حضارة ناقصة وعقيم! حضارة مصابة بفقر الدم، فلابد إذن من هذا الدم الذي إن لم يحمل اسماً عالمياً فلن يأخذ مشروعية معاصرة، وإن لم يأخذ هوجة (سوبرستار) كان بلا معنى، ومادام الإعلام قد أنجز كل مهماته السياسية والاجتماعية، فليهتم (بالمطربين الهواة) الجدد.. وليُستقبلوا استقبال الفاتحين على الحدود.. ولتنخرط في الحديث عنهم أقلام الصحفيين الكبار، ولتُنْصب من أجلهم الموائد، ولتُجنَ من ورائهم الأرباح الخيالية التي تصب في جيوب أصحاب الشركات التي لا علاقة لها بروح الفن وثقافته (أليسوا سلعة رائجة لهواتف الموسرين ومصممي الأزياء ومستحضرات التجميل؟)، لقد انقضى زمن معراج الفن العسير الذي كان فيه الفنان يشق طريقه في صخر التدرب والثقافة، والإخلاص الشبيه بالعبادة والتصوف، وأصبحت المعاناة في ذمة التاريخ (والمعاناة لا تعني الفقر والشقاء والتذلل، بل التعلم على أيدي الكبار والتدرب على التفاصيل التي توصل إلى الكمال)، هذا العصر يأخذ الفن والشهرة في بقجة صغيرة ليقدمها لمن تختاره الشركات والمتمولون ليأخذنا معه إلى حمّام لا ندري كيف نخرج منه، إذ غالباً ما يكون الفنان المزعوم أمياً في مجال الفن، بارعاً في مجالات أخرى..

المطربون يفرخون لتلبية الحاجات العربية المعاصرة، ويرتفع عددهم بنسبة إحصائية تفوق أمراض السكر والقلب والضغط والاكتئاب، ولأنهم أصبحوا أكثر من حاجة السوق، وأقوى من أساليب مكافحة الجمهور، فإن تفريخ الحوامل لهم بات أكثر ضرورة وهاهي الفضائيات الخاصة (بعد عجز الفضائيات الرسمية عن حمل العبء)، هاهي الفضائيات الخاصة تفرّخ بدورها ما لا عدّ له ولا حصر لتخدم الطرب العربي المعاصر، وافرح يا قلب بالأجساد العارية والأصوات المصنّعة، والذكور المخنثين، وراسمي الخرائط التي بلا طريق على وجوههم، واستمتعي يا أذن بكل هذه الترهات.. أما أنتم أيها الكبار فتواروا في الظل لأنه لا أحد سيبكي رحيلكم، (أما رأيتم كيف مات نجيب السراج بعد أكثر من خمسين سنة غناء وتلحيناً فلم يجد من يرثيه أو يقيم ندوة تقيم أعماله ولو رفع عتب)، لا أحد لديه وقت لاستقبالكم في أي مناسبة فالكثير منكم يجب أن يكون قد اكتفى من حفاوة العالم الخارجي حيث تعزفون أو تغنون فأنتم من زامري الحي الذين لا يُطربون لانتهاء مدة صلاحيتكم.. أما نحن الإعلاميون فلدينا مشاغل تثيرها هوجة الدعايات والاستثمارات فنجد أنفسنا فجأة، وربما بلا رغبة حقيقية، نشارك فيها بحيث نسينا توديع إعلامي كبير كالأمير يحيى الشهابي إلى مثواه الأخير.. فما كان في وداعه سوى اثنين من أسرتنا الإعلامية المبجلة، فهل تصدقون؟