الاتحاد / السيد يسين

ليس هناك شك في أن خطاب الرئيس بوتين الذي ألقاه في العاشر من فبراير عام 2007 أمام مؤتمر ميونيخ عن "سياسات الأمن"، يعد بكل المعايير خطاباً تاريخياً.
ويرد ذلك إلى الحقيقة التي مؤداها أن هذه أول مرة يمارس فيها الرئيس الروسي منذ توليه رئاسة بلاده النقد العلني المباشر لسياسات الهيمنة الأميركية، وانفرادها بالعالم، في ظل نظام دولي تحول من الثنائية القطبية (الاتحاد السوفييتي في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية)، إلى الأحادية القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتبوؤ الولايات المتحدة الأميركية مقعد القطب الأوحد المهيمن على السياسة العالمية.
وقد سبق أن قررنا بعد قراءة موجز الخطاب كما نشرته وكالات الأنباء أنه في الواقع -بالاستناد إلى وثائق الأمن القومي الروسي- يعد خطاباً كاشفاً وليس خطاباً منشئاً.
وقد ظن عديد من المُعلقين السياسيين أن هذه أول مرة ينتقد فيها الرئيس الروسي الهيمنة الأميركية. وليس هذا صحيحاً، لأنه وقّع في 28 يونيو عام 2000 وثيقة بالغة الأهمية بعنوان: "مفهوم السياسة الخارجية في الاتحاد الروسي" تضمنت في الواقع كل الانتقادات التي تناولها في خطابه، وأكثر من ذلك تحدثت الوثيقة عن سعي روسيا إلى تحويل النظام الدولي الأحادي القطبية الراهن إلى نظام متعدد الأقطاب، وهي نفس الفكرة المحورية التي اقترحها في خطابه.
ومع كل ذلك حين حصلت على النص الكامل لخطاب الرئيس بوتين أدركتُ على الفور أن وكالات الأنباء لم تعطِه حقه من العرض المفصل، لأنه -بعد دراستي الدقيقة له- لا يتضمن فقط نقداً عنيفاً لسياسات الهيمنة الأميركية، وإنما يتعدى ذلك بكثير، لأنه بعد عرضه لملامح وقسمات النظام الدولي الراهن الذي ساد بعد نهاية عصر الحرب الباردة، قدم في الواقع مقترحات متعددة بالغة الأهمية لتغيير هذا النظام وتحويله من نظام أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب. ولقد كانت صراحة الرئيس بوتين في بداية خطابه موجعة حقاً حين قرر أنه لن يلجأ إلى الصياغات الدبلوماسية الفارغة من المعنى، ولكنه -بدلاً من ذلك- سيعرض على المؤتمر المشكلات الحقيقية التي يراها تواجه الأمن الدولي.
وقرر أنه في تقريره فإن الأمن الدولي يتضمن أكثر من مجرد الموضوعات الخاصة بالاستقرار السياسي والعسكري، لأنه يمس أيضاً استقرار الاقتصاد المعولم، ومكافحة الفقر، وضمان الأمن الاقتصادي، وتنمية الحوار بين الحضارات.
والطابع العالمي للأمن وغير القابل للتجزئة لخصته من قبل عبارة شهيرة للرئيس الأميركي روزفلت حين قرر أن "الأمن بالنسبة لقطر واحد ينبغي أن يكون أمناً لجميع الأقطار، لأنه إذا تحطم في أي مكان فإن السلام في كل مكان سيصبح في خطر".
وعلى رغم انتهاء عصر الحرب الباردة التي في أحد جوانبها ضمنت السلام العالمي بحكم قوة كل طرف من أطرافها، إلا أنها تركت بعد زوالها -كما قرر يوتين- بعض الذخائر الحية تثير القلق، وأهمها القوالب الإيديولوجية النمطية الثابتة، والصورة الجامدة عن الغير، وازدواج المعايير بالإضافة إلى بقاء بعض صور أنماط التفكير التي سادت طوال الحرب الباردة.
وبعبارة موجزة يمكن القول إن الفراغ الذي تركه النظام الدولي ثنائي القطبية لم يملأه النظام الأحادي القطبية.
وتساءل بوتين: ما الذي يعنيه النظام الأحادي القطبية؟ ويجيب أنه يعني مركزاً واحداً للسلطة ومركزاً واحداً للقوة، ومركزاً واحداً لاتخاذ القرار. إنه -بعبارة أخرى- عالم يهيمن عليه سيد واحد، وقطب واحد مهيمن، لن تؤدي سياساته للإضرار بمصالح كل الدول داخل النظام الدولي فحسب، بل وأخطر من ذلك أنه يهدد القطب الأوحد ذاته من خلال انهياره من الداخل عبر الزمن!
وهذا الوضع -كما يقرر بوتين- ليس له أي علاقة بالديمقراطية، لأنها هي -في تعريفها- قوة الأغلبية في ضوء مصالح وآراء الأقلية. ويضيف ساخراً أن روسيا تُلقى عليها دروس في الديمقراطية من هؤلاء -ويقصد الأميركيين- الذين لا يريدون أن يتعلموها!
إن النظام أحادي القطبية -كما يرى بوتين- ليس فقط غير مقبول، بل إنه مستحيل تطبيقه في العالم اليوم، ليس فقط لأنه ليس في وسع قطب واحد أن يحتفظ لنفسه فقط بكل القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولكن لأن النموذج نفسه خاطئ، لأنه في أساسه يفتقر لأي أساس أخلاقي يصلح للحضارة الحديثة.
والدليل على فساد النظام أحادي القطبية أنه لم يحل أي مشكلة منذ قيامه، بل أكثر من ذلك أنه تسبب في حدوث تراجيديات إنسانية، وخلق مراكز جديدة للتوتر. والدليل على ذلك أن الحروب والصراعات الإقليمية لم تختفِ، وملايين البشر ماتوا في هذه الصراعات، أكثر بكثير من الوضع العالمي السابق.
ونحن تشهد اليوم استخداماً فائقاً للقوة العسكرية في مجال العلاقات الدولية، وهو استخدام أغرق العالم كله في دوامة صراعات دائمة. ونتيجة لذلك أصبحنا عاجزين، ونفتقر للقوة اللازمة للعثور على حلول شاملة لهذه الصراعات، لأن صياغة حلول سياسية أصبحت مستحيلة.
ونشاهد تصاعداً في إهدار المبادئ الأساسية للقانون الدولي. واحتكرت دولة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية وضع المعايير القانونية التي تجاوزت حدودها القومية بكل طريقة ممكنة. وهذا أمر شديد الوضوح في السياسات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية التي تفرضها الولايات المتحدة على الأمم الأخرى.
وبتساءل بوتين: هل هناك أحد في العالم يحب ذلك أو سعيد بهذا الوضع؟ والإجابة بـ"لا" على سبيل القطع. وهناك إحساس عالمي بعدم الأمن نتيجة لهذه السياسات، ولبروز تهديدات جديدة للأمن مثل تزايد أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب المعوْلم.
ويقرر أننا في هذه اللحظة التاريخية وصلنا إلى عتبة حاسمة، تفرض علينا إعادة صياغة معمار نظام الأمن العالمي، يقوم على أساس إقامة نوع من أنواع التوازن بين مصالح كل المشاركين في الحوار الدولي الراهن. وهناك حقيقة أساسية مفادها ظهور مراكز اقتصادية عالمية جديدة، لابد أن تتحول إلى مراكز سياسية مؤثرة مما من شأنه أن يقوي التيار الصاعد لنظام عالمي متعدد الأقطاب.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تثير قضايا تتعلق بحق التدخل لتغيير النظم السياسية الشمولية أو السلطوية، فذلك ينبغي أن يكون من خلال تطبيق ميثاق الأمم المتحدة، وفي ضوء قواعد القانون الدولي.
إن السياسات الأميركية الراهنة من شأنها أن تزيد من سباق التسلح في العالم.
وقد خطت الولايات المتحدة الأميركية خطوات خطرة في مجال حرب النجوم ومحاولتها السيطرة على الفضاء الخارجي، مما يمثل تهديداً خطيراً للأمن العالمي. ولا ينبغي أبداً -في خضمِّ المناقشات حول الأمن- أن ننسى الأمن الاقتصادي للشعوب.
وفي عبارة ختامية لها دلالتها قرر بوتين أن روسيا تود أن تتفاعل مع شركاء مستقلين ومسؤولين سعياً وراء خلق نظام عالمي يتسم بالعدالة، ويتحلى بالديمقراطية، ومن شأنه أن يضمن الأمن والرخاء ليس فقط للقلة من الدول، وإنما لجميع الدول بلا استثناء. بعبارة أخرى، الرسالة الأساسية في الخطاب هي إعادة صياغة النظام الدولي وتحويله من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، مما من شأنه أن ينهي عصر الهيمنة الأميركية المفردة. هكذا تكلم الرئيس بوتين!
والواقع أن الرئيس بوتين في خطابه النقدي العنيف الذي وجه علناً في ميونيخ للولايات المتحدة الأميركية، لم يكن يتحدث فقط باسم روسيا ولكنه في الحقيقة كان يتحدث باسم العالم كله، بما فيه حلفاء الولايات المتحدة الأميركية الذين روَّعهم إهدارها للقانون الدولي، وتجاوزها في الغزو العسكري للعراق لمجلس الأمن، والنتائج السلبية لسياسة الحرب ضد الإرهاب، والتي لم تؤدِّ إلا إلى زيادة معدلات الإرهاب، وسيادة الشعور بعدم الأمن لشعوب متعددة.
غير أنه لم يغفل المصالح الروسية المباشرة، لأنه انتقد مباشرة سياسة حلف الأطلسي في مد خطوطه الصاروخية لتحيط روسيا بمنصات الصواريخ التي نشرها في بولندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، مما يهدد مباشرة الأمن القومي الروسي. وقرر أن روسيا التزمت باتفاقياتها مع الولايات المتحدة بشأن التخفيف من ترسانة الصواريخ، غير أن الولايات المتحدة الأميركية في خطواتها الأخيرة لم تفِ بهذه الالتزامات.
ومن هنا يحق السؤال: خل نحن في مواجهة حرب باردة جديدة؟