أعلن المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا صدر الدين البيانوني منذ أيام، أن جماعته ستنشئ حزباً سياسياً جديداً في الداخل عندما تسنح الفرصة بذلك، يضم كل فئات المجتمع السوري، من علمانيين ومحافظين ويساريين وليبراليين، ومن كل تنوعاتهم العرقية والمذهبية.

والأسباب التي دفعت الجماعة إلى تأليف هذا الحزب بحسب البيانوني هو الوصول إلى شرائح المجتمع السوري كافة، ما دام قد تعذر ذلك من خلال الجماعة التي ليست في نهاية المطاف حزباً سياسياً بقدر ما هي جماعة إسلامية تقوم بواجب الدعوة إلى الله عز وجل، وتفهم الإسلام فهماً شاملاً يشمل كل جوانب الحياة، وتعتبر العمل السياسي جزءاً أساسياً من نشاطها، والخلاصة أن الانتساب إلى هذه الجماعة لا يحصل إلا للذين يؤمنون بمبادئها، أي لأولئك المنتمين إلى طائفة دينية معينة، بعكس الحزب الجديد الذي لا يكون فيه الدين والعرق والطائفة عقبات تقف أمام الراغبين في الانتساب إليه. تصريحات البيانوني هذه تكشف الأزمة العميقة التي تعيشها جماعة الإخوان المسلمين، فعلى الرغم من أنها قد جاءت رد فعل على فشل المشروع القومي، إلا أنها لم تطرح إجابات أو مشاريع حقيقية للنهوض بالواقع العربي المتردي، ولم تقدم لنا الطريقة الكفيلة بالوصول إلى نظام الحكم السليم الذي على أساسه يتحقق الخير العام في المجتمع.
كل ما قدمته هو مشاريع ميتاواقعية شأنها شأن المعارضة العلمانية في الخارج أيضاً: إما في اتجاه المستقبل من خلال ثورة تحقق بضربة واحدة ما أنجزته الأمم والشعوب الغربية طوال قرون مضت، كالمواطنة والديموقراطية والمجتمع المدني... إلخ، متناسيةً أن تلك الشعوب قد شهدت تحولات تاريخية مفصلية انتهت إلى ما انتهت إليه الآن من تطور اجتماعي، أو من خلال ثورة أخرى لكن في اتجاه الماضي بالرجوع إلى صيغة السلف الصالح، وإعادة إنتاج حياتنا على الصيغة الماضوية نفسها، متناسيةً أيضاً أن التاريخ لا يكرر نفسه، وإن فعل يظهر في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة.

المشكلة الأولى التي تواجه أي قارئ لكلام البيانوني أعلاه، هي أن ادعاء الجماعة في السنوات السابقة أنها طورت مفاهيمها بما ينسجم مع قيم العصر، ليست إلا دعاوى متهافتة، فما معنى تأليف حزب سياسي علماني منفصل في مبادئه ومنهجه عن عمل الجماعة، اللهم إلا أن القيم العلمانية للحزب الجديد تتعارض مع القيم الدينية التي تشكل جوهر الجماعة ومبادئها، فلو كانت المفاهيم العلمانية قابلة للانسجام مع المفاهيم الدينية الإسلامية للجماعة لجرت عملية تطوير لفكر الجماعة، أو على الأقل عملية توفيقية تلفيقية، وبالتالي فإن الحديث عن تطور في المفاهيم السياسية للجماعة جاء حاجةً إجرائيةً تتمثل في كسب أكبر عدد من المعارضين العلمانيين للنظام السوري، كعبد الحليم خدام وآخرين، وهذا ما ظهر فعلاً العام الماضي في ما سمي جبهة الخلاص المؤلفة من البيانوني ممثلاً للتيار الإسلاموي وخدام ممثلاً للتيار الليبرالوي.

والنقطة الثانية التي تظهر قسوة مفارقتها، هي كيف يمكن نخبة دينية بحكم تعريفها لذاتها أن تشرف على حزب علماني تقوم مبادئه بالأساس على تعارض مع مبادئ الجماعة، والتعريف الذاتي يعني هنا أن جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة دينية سلفية لا بحكم المجموع العددي الذي يؤلف الجماعة، بل بحكم رؤيتها لذاتها من حيث هي جماعة تمارس السياسة باسم الدين.

بعبارة أخرى، فيما يفترض بالحزب السياسي العلماني الجديد الذي تسعى الجماعة إلى إنشائه في سوريا أن يجعل من عملية العلمنة القائمة على الفصل بين الدين والدولة معياراً لبنائه النظري، وما يعنيه ذلك من اعتبار الدولة ــ الأمة الوعاء القومي الذي تتوحد فيه الثقافات المختلفة، وتكون المواطنة فيه أساس الانتماء إلى هذه الدولة بغض النظر عن ثقافات الأفراد الأقوامية الموجودة في المجتمع، يسير الاتجاه الثاني السلفي (جماعة الإخوان المسلمين) في اتجاه معاكس للأول، انطلاقاً من مقولة لا يصلح آخر الأمة إلا كما صلح أولها، أي أنه يرفض نظرياً وواقعياً نتائج عملية العلمنة (فصل الدين عن السياسة)، الأمر الذي يعني تحويل الأمة القومية كأساس للانتماء، إلى أمة دينية يكون الإيمان فيها هو أساس الانتماء للأمة المرجوة، وإعادة دمج السياسة بالدين والارتقاء بالسياسة إلى مستوى المقدس. والمفارقة أن هذين الموقفين الميتاواقعيين، عوضاً عن أن يكونا متخاصمين في الرؤية والمنهج على ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، نظراً إلى اختلاف المنظومة الفكرية لدى كل طرف، نجدهما وفي سخرية تاريخية متلاصقين، والمشكلة التي تزيد من مأزق الجماعة أنها المشرفة والموجّهة لهاتين المنظومتين الفكريتين المتعارضتين.
يتكوّن مشروع الجماعة في حقيقته إذاً من مكوّنين اثنين: الأول أن مبادئ الجماعة ستتحول إلى دستور في سوريا المستقبلية، والمكون الثاني انسجام المفاهيم الديموقراطية العلمانية مع هذا الدستور.
والواقع أن الجماعة لم تقدم الحل لهذه الإشكالية: دمج الدين في السياسة والسياسة في الدين، وكيفية توفيق المفاهيم الغربية وتبيئتها حتى تنسجم مع المفاهيم الدينية. وهي إشكالية ظلت الشغل الشاغل لمعظم المفكرين العرب منذ أكثر من قرنين. لقد عمدت الجماعة إلى ربط الإسلام والديموقراطية ربطاً عضوياً من دون إيضاح العلاقة التي تربط بين المفهومين، على غرار مقولة اليهودية والديموقراطية في إسرائيل حيث يطالبنا المفكرون الإسرائيليون بقبولها على رغم كل تناقضاتها المفعمة.

هذه الأزمة التي تعصف بفكر الجماعة ظهرت أيضاً العام الماضي في ما سمي جبهة الخلاص التي ضمت الجماعة مع خدام ممثلاً للتيار الليبرالوي، وهو تحالف سياسي بكل ما في الكلمة من معنى، وعندما نتحدث عن السياسة فإننا نستحضر المكيافيللية والبراغماتية كوسيلتين للوصول إلى الهدف الكبير ألا وهو السلطة في ذاتها لا باعتبارها وسيلة للتغيير بل غاية ينتهي عندها التاريخ.

والخلاص هنا عنواناً للجبهة لا يعني الخلاص الديني للمجتمع والدولة عبر التحرر من الخطايا الدنيوية والعودة إلى منظومة القيم الإسلامية في عصرها الذهبي، ولا يعني الخلاص بالمعنى العلماني أي التحرر من الفساد والتوتاليتارية السياسية لمصلحة منظومة القيم الديموقراطية ــ الليبرالية، جلّ ما هو مقصود بالخلاص هو التخلص من السلطة ــ الدولة السورية بأي شكل من الأشكال، وكأن خارج الدولة تتحقق الديموقراطية والعدالة والمساواة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... إلخ.

إن النزعة الشمولية الدينية ــ العلمانية المطلقة لجبهة الخلاص كمحاولة للتصدي لشمولية الدولة، ستؤدي بلا شك إلى رد فعل لا على الشمولية فحسب بل على المجتمع والدولة، وبالتالي تُنتزع الحداثة من سياقها التاريخي لمصلحة نزعات رومانسية فوق تاريخية.

وما يزيد من اغتراب الجماعة عن الواقع، أو المعطيات الموضوعية في سوريا، هو مطالبتها الشعب السوري بالقيام بثورة ضد النظام، متناسيةً عن وعي أو غير وعي أن الثورة الاجتماعية في سوريا تفتقر إلى مقوماتها الموضوعية وشروطها التاريخية، فالثقافة السياسية ما قبل المدنية هي السائدة، بمعنى أن الديموقراطية والليبرالية والمجتمع المدني ليست أولوية لدى الشارع السوري، في الوقت الذي يبتعد فيه عن المفاهيم الدينية غير المعتدلة. وعلى العكس من ذلك تشكل الدولة، باعتبارها نموذجاً للوحدة التي تحتوي الكثرة، واقعاً مقدساً لا يمكن المساس به. وإن التغيير المطلوب اجتماعياً يجب أن يكون في إطار الدولة لا من خارجها، وخصوصاً أنها تمثل في نظر معظم السوريين على الأقل الحصن الأخير في مواجهة المشروع الأميركي ــ الصهيوني في المنطقة، وهي أولوية سياسية لا يضاهيها أية أولوية أخرى، وبالتالي أية محاولة لتركيب ثورة خارج شروط تحققها الموضوعية ستقود إلى ديكتاتورية الثورة، على غرار الديكتاتورية اللينينية وديكتاتورية طالبان اللتين حاولتا اختصار المراحل التاريخية إما إلى الأمام وإما إلى الوراء.