الاتحاد / باتريك سيل

يتصف المشهد السياسي الإسرائيلي بحالة غير معتادة من التقلب في الوقت الراهن. ويتفق جميع المراقبين لذلك المشهد على أن الانتخابات الإسرائيلية لو أجريت غداً، فإن رئيس الوزراء إيهود أولمرت سيفقد منصبه. ودليلهم في ذلك أن استطلاعات الرأي كلها تشير إلى أن الرجل قد فقد ثقة ناخبيه.
ويرجع الضعف الشديد الذي يعاني منه أولمرت إلى أربعة أسباب: أولها أنه ليس آرييل شارون، بمعنى أنه ليس بالمقاتل الذي خاض الحروب وتلطخت يداه بالدماء، ولا بـ"السياسي البلدوزر" الذي يكتسح ما أمامه، والذي مر بعملية تحول كاملة في أخريات حياته جعلته يؤمن بأن إسرائيل لا تستطيع الاحتفاظ بكافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويستنتج أن لدى إسرائيل ما يكفي من المستوطنات، على رغم أنه مهندس برنامج المستوطنات في الأصل، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من غزة من جانب واحد وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية القائمة فيها، لا بل والانسحاب كذلك من حزب "الليكود" اليميني الذي كان قد شارك في إنشائه وأنشأ حزب يمينياً جديداً هو" كاديما" يمثل التيار الوسطي "اليميني" والذي قُدر لأولمرت أن يرثه بعد أن تعرض شارون لسكتة دماغية قاتلة.
ولكن أولمرت لم يكن يمتلك الكفاءة لمواصلة السير على نهج شارون، فالحزب تحت قيادته لم يحصل عندما خاض الانتخابات سوى على 29 مقعداً فقط من مقاعد "الكنيست" بدلاً من 44 مقعداً كان يتوقع له الحصول عليها لو كان شارون لا يزال في دفة القيادة.
وبسبب ضآلة عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب اضطر أولمرت إلى الدخول في ائتلاف مع حزب "العمل" تحت رئاسة زعيمة الجديد عديم التجربة "عمير بيريتس". بعد ذلك جاء دور الضربات الموجعة، التي أعاقت "أولمرت" سيئ الحظ وهي: فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في يناير 2006، واستمرار إطلاق صواريخ "القسام" من قطاع غزة على المدن الإسرائيلية الواقعة في منطقة النقب، والتي بدا أن إسرائيل غير قادرة على إيقافها، على رغم عمليات القصف العشوائي والغارات المتكررة، التي قامت بها إسرائيل لقطاع غزة ثم جاءت الحرب الكارثية التي خاضتها إسرائيل في الصيف الماضي ضد "حزب الله" لتكشف عن أخطاء كبيرة في عملية اتخاذ القرار السياسي والإدارة العسكرية في إسرائيل، وتُظهر انكشاف الجيش التقليدي عندما يسعى إلى إخماد قوة مقاومة جيدة التدريب.
ولا يزال المجتمع الإسرائيلي يعاني حتى الآن من صدمة نفسيه بسبب إخفاق جيش الدفاع الإسرائيلي في كسب الحرب ضد "حزب الله"، وبسبب حقيقة أن منطقة شمال إسرائيل بأسرها قد تعرضت لهجمات صاروخية كثيفة لمدة تزيد على شهر وهو ما يعني أن الحرب جرت جزئياً -ولأول مرة في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية- داخل أراضٍ إسرائيلية. ومن الممكن جداً لتقرير"فينو جراد" المرتقب الذي ستقدمه اللجنة المكلفة بالتحقيق في الطريقة التي أجريت بها الحرب مع "حزب الله"، أن يوجه الضربة النهائية إلى سمعة "أولمرت" وبالتالي لحكمه. وبعد فشله في كل من غزة ولبنان، اضطر "أولمرت" إلى التخلي عن سياسات شارون الأحادية، وهو ما يرجع إلى أنه -على العكس من شارون- يفتقر إلى القوة اللازمة لمواجهة حركة المستوطنين، وهو الأمر الذي بدا واضحاً في عجزه عن تفكيك مستوطنة واحدة من المستوطنات غير القانونية. يُضاف إلى ذلك، أن الرجل يبدو في نظر الكثيرين في إسرائيل ضعيفاً إلى درجة لا تمكنه من التعامل مع إيران، خصوصاً في هذه المرحلة التي وصل فيها نفوذ طهران إلى الحدود الإسرائيلية مع كل من سوريا ولبنان.
وهناك رجلان يقفان في ظلال المشهد السياسي الإسرائيلي على أمل أن يرثا السلطة عندما يسقط "أولمرت". أولهما هو بنيامين نتانياهو، السياسي "اليميني" الإسرائيلي الذي تولى رئاسة الوزارة من 1996 إلى 1999، والذي يقود حزب "الليكود" حالياً ويراوده الآن أمل العودة إلى رئاسة الوزارة مجدداً. وآمال الرجل ليست بالآمال غير الواقعية، ولا تحتاج كي تتحقق سوى عودة الأحد عشر عضواً من أعضاء "الكنيست" الذين تركوا "الليكود" وانضموا إلى حزب "كاديما" إلى حزبهم الأول "الليكود" مرة أخرى، حتى تكون لدى الحزب الفرصة لإخراج" أولمرت" من رئاسة الوزارة خلال "الكنيست" الحالي. ويمكن القول إن "كاديما" كما تشير كافة المؤشرات معرض لخطر التفكك الوشيك. ويحاول نتانياهو في الوقت الراهن إظهار نفسه على أنه الزعيم الإسرائيلي الوحيد القادر على التعامل مع التهديد الإيراني المزعوم بـ"إزالة إسرائيل من الخريطة". وهو في هذا الإطار يضغط على الولايات المتحدة -والعالم كله في الحقيقة- من أجل التصدي للملالي وتدمير نظامهم حيث أن هذا هو كل بضاعته السياسية التي يتاجر بها.
وعلى يسار المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي، يقف إيهود باراك الذي شغل منصب رئيس الوزراء خلال الفترة 1999- 2000، والذي يطمح لقيادة الدولة مرة أخرى. ويمكن للانتخابات التمهيدية لحزب "العمل" التي ستجري في شهر مايو المقبل أن تُمكن الرجل من إقصاء "عمير بيريتس" من زعامة الحزب والحلول محله كذلك في منصب وزير الدفاع في حكومة أولمرت كنقطة للوثوب لقيادة حزب "العمل" في الانتخابات التالية، والتي يمكن أن ينحصر التنافس فيها بين باراك ونتانياهو في تكرار لسيناريو المعركة الانتخابية في1999 التي فاز بها "باراك" وقام بعدها ببادرة جريئة وهي الانسحاب من جنوب لبنان بعد 22 عاماً من الاحتلال، غير أنه أخفق بعد ذلك في إظهار الشجاعة السياسية اللازمة للتوصل إلى اتفاقيات سلام سواء مع الفلسطينيين أو مع سوريا.
يدعي أصدقاء "باراك" أنه قد تعلم من أخطاء الماضي وأنه ربما يكون السياسي الوحيد في المشهد الإسرائيلي الذي يمتلك القدرة والتجربة لتحقيق السلام مع العالم العربي. وبالطبع لا يمكننا أن نتوقع حدوث شيء مثل هذا مع سياسي يعاني من الضعف مثل "أولمرت" الذي يكافح في الوقت الراهن من أجل إنقاذ حياته السياسية من الانهيار. وباعتباره تلميذاً لشارون فإن "أولمرت" يتبنى موقفاً معارضاً للتعامل مع سوريا، لا بل إنه ذهب إلى حد التصريح علناً بأنه طالما ظل رئيساً للوزراء، فإن إسرائيل لن تنسحب من الجولان. وموقف الرجل على المسار الفلسطيني ليس أفضل من موقفه على المسار السوري بدليل أنه يصر على أن إسرائيل لن تتعامل مع حكومة الوحدة الفلسطينية، طالما أنها تضم "حماس". ومن هنا فإن الصيحة الإسرائيلية الخادعة المتمثلة في أنه لا سلام لأنه "لا يوجد شريك"، تظل هي الصيحة المعتادة للساسة الإسرائيليين، الذين يريدون أن يتهربوا من خيار المفاوضات. لذلك أيضاً يمكن القول إن الجمود والانجراف عن المسار سيظلان هما الاتجاهان السائدان في تل أبيب وسيستمران كذلك حتى السقوط الحتمي لحكومتها.