باتريك سيل / الحياة

كان يبدو الشرق الأوسط، منذ أسبوعين، على حافة الحرب! كانت حاملات الطائرات الجاهزة لـ «الضربة العسكرية» في طريقها إلى الخليج، وكان ديك تشيني، نائب رئيس الولايات المتحدة يهدد بأنه «إذا لم توقف طهران تخصيب اليورانيوم فستكون كل الخيارات مطروحة على الطاولة» وظهر للعيان أن المتشددين من المحافظين الجدد قد عادوا إلى النفوذ في واشنطن، بعد أن بدأت صحيفة «ويكلي ستاندارد» الناطقة باسمهم تدعو، من دون توقف، إلى الحرب.

وفجأة تبددت الغيوم الداكنة، وظهر طقس افضل، بعد أن ظهر تطور مثير وجديد في تحرك الديبلوماسية السعودية، وفي اتجاهات شتى. لقد رعا السعوديون اتفاق مكة المكرمة الذي أبرم بين «فتح» و «حماس» في الشهر الماضي، ففتح الطريق أمام قيام حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومن المرجح أن يدعو السعوديون إلى عقد اجتماع مماثل لرعاية المصالحة الوطنية اذا تحققت بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، في المستقبل القريب .

إن هذه التطورات ستكرس قيادة المملكة العربية السعودية في العالم العربي خصوصاً أنها معززة بنفوذها الديني والمالي، بل إن الرياض، في تحد واضح للاستفراد الأميركي، أجرت حواراً مكثفاً مع إيران، من خلال الاجتماعات بين الأمير بندر بن سلطان وعلي لاريجاني، رئيسي مجلسي الأمن القومي في بلديهما أولاً، ومن خلال القمة الثنائية بين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ثانياً. ولم يعد خافياً أن للبلدين مصلحة مشتركة في: أ- إيقاف العنف المذهبي بين السنة والشيعة في العراق ومنع انتشاره في المنطقة، وب- إطفاء النيران التي كانت على وشك الاندلاع في فلسطين ولبنان، وج- الحيلولة دون نشوب حرب أميركية إيرانية، ستلحق كارثة مروعة في الشرق الأوسط، خصوصاً في دول الخليج العربي المعرضة أكثر من غيرها للأخطار الماحقة.

إن الحوار السعودي - الإيراني هو إيذان قوي بأن هذين البلدين القياديين مصممان على الإمساك بمقاليد الأمور باليد، وعلى تحرير المنطقة من تدخل القوى الأجنبية. وهذه رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة التي بدأ نفوذها يتقلص في المنطقة، بعد حربها الفاضحة على العراق.

ومن الواضح أن كل ما يجري هو بمثابة تحضير للقمة العربية المهمة التي ستعقد في الرياض في 28 و29 آذار الجاري، وقد يقتضي منا التنويه هنا، بأن أمثال هذه القمم العربية كانت مدعاة للسخرية في الماضي، بسبب عدم فعاليتها، وبطلان جدواها، ولأن أحداً لم ينفذ ما يصدر عنها من قرارات، ولكن هذه القمة الجديدة في الرياض هي شيء آخر على الأرجح إذ أن هناك شعوراً عاماً بضرورتها الملحة ومن المتوقع أن تعيد طرح مبادرة السلام العربية التي تقدم بها الملك عبدالله، حين كان لا يزال ولياً للعهد، ثم تبنتها الدول العربية كلها في قمة بيروت عام 2000.

كانت هذه المبادرة قد وعدت إسرائيل بالسلام، وتطبيع العلاقات مع 22 دولة عربية في الجامعة العربية، مقابل انسحابها من كل الأراضي المحتلة في حرب 1967، كما نصت على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تكون القدس الشرقية عاصمتها، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، يتطابق مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (علماً أن هذا القرار يخير اللاجئين بين العودة إلى منازلهم الأصلية أو القبول بالتعويضات). وكانت إسرائيل قد رفضت هذه المبادرة بعجرفة، عند اعلانها، ولكن الأوقات قد تغيرت وبدأت ترتفع أصوات من الداخل الإسرائيلي الآن، ليس أقلها شأناً صوت تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل التي ترى أن المبادرة يمكن أن تكون أساساً للمفاوضات.

هناك تطورات جديدة تدفع الإسرائيليين إلى القناعة بأن الزمن قد حان، على الأرجح، لمصافحة اليد العربية الممدودة: الصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة في العراق وحتمية انسحاب قواتها منه، بدء حوار الولايات المتحدة الأميركية مع إيران وسورية، فشل إسرائيل في سحق «حزب الله» في حربها ضد لبنان الصيف الماضي، عجز إسرائيل عن تصفية «حماس» بالضربات العسكرية أو الحصار المالي، عودة الالتزام الأميركي بعملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية، وصحوة الديبلوماسية الأوروبية، كما يبدو جلياً من الجولة التي يقوم بها خافيير سولانا، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية في الشرق الأوسط وعدم استثناء سورية منها، وأخيراً نهاية عزل سورية.

ولعل من أهم العوامل التي تؤثر على الرأي العام الإسرائيلي انحسار مصداقية رئيس الوزراء أيهود أولمرت، وسوء طالع وزير الدفاع عمير بيريتس المعروف بأنه كان زعيماً لاتحاد العمال الإسرائيلي سابقاً، وتؤكد استطلاعات الرأي العام الحديثة أن شعبية الاثنين قد قاربت درجة الصفر، ومن المحتمل أن يرغما على ترك السلطة، بعد أن ينشر القاضي المتقاعد إلياهو فينوغراد تقريره الأولي عن الأحداث التي أدت إلى حرب إسرائيل على لبنان والتي استمرت 34 يوماً في الشهر القادم، بالإضافة إلى أن أولمرت سيواجه المساءلة القضائية حول سلسلة من قضايا الفساد، وقد يفسح اختفاؤه عن المسرح السياسي المجال أمام تسيبي ليفني وزيرة الخارجية لتزعم حزب كديما. أما في ما يتعلق بحزب العمل فإن سقوط بيرتس قد يفتح الباب واسعاً أمام صعود رئيس وزراء إسرائيل السابق ايهود باراك.

وقد أصبح جلياً أن ليفني وباراك يقدران أن المناخ الاستراتيجي الإسرائيلي قد تحول من السيئ إلى الأسوأ، وأن توقيت عقد سلام شامل مع العرب قد حان. ولم يعد سراً أن باراك يخطط لمنافسة بيرتس على رئاسة حزب العمل في مؤتمر الحزب القادم الذي سيعقد في شهر أيار (مايو) من هذا العام، والمعتقد أنه مصمم على تصحيح أخطائه التي ارتكبها، حين كان رئيساً للوزراء في عامي 1999 و2000 وأضاع فرصة عقد سلام شامل مع الفلسطينيين وسورية. أما ليفني وزيرة الخارجية فإنها تتجرأ على رفع صوتها، والدعوة إلى السلام مع العرب، كما فعلت في خطابها الذي ألقته في مؤتمر «ايباك» - أقوى لوبي يهودي في الولايات المتحدة - بتاريخ 12 آذار (مارس) الجاري الذي وضعت فيه شروطها للتعامل مع «المعتدلين العرب»، وتتضمن هذه الشروط استعداد العرب لمكافحة الإرهاب وإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليت المختطف في غزة، والتوقف عن مهاجمة المدنيين الإسرائيليين، ووضع حد لتهريب الأسلحة عبر الحدود المصرية إلى غزة، وتهيئة الشعب الفلسطيني لقبول التسويات الضرورية ومستلزمات المصالحة التاريخية، مما لا بد من توفره لدى الطرفين للتوصل إلى سلام حقيقي.

هذه اللهجة الجديدة في إسرائيل مختلفة تمام الاختلاف عن اللهجة التي كان يرددها المتطرفون الإسرائيليون من أمثال بنيامين نتانياهو الذي كان يحلم دائماً بالعودة إلى الحكم كرئيس وزراء ليكودي، في حال تفكك كديما. واللافت أن دعوة نتانياهو الصاخبة إلى العالم لمنع آيات الله في إيران من الحصول على القنبلة النووية تبدو الآن «خارج السياق». وحتى «ايباك» لم تعد تطالب بإعلان الحرب على إيران، مفضلة أن تضع كل ثقلها لإقرار المقاطعة المالية التي تهدف إلى زعزعة الاقتصاد الإيراني.

ويبدو أن إدارة بوش تسعى الآن، ومن دون ضجيج إعلامي، إلى تصحيح أخطائها في الشرق الأوسط، وهناك على ما يبدو عودة إلى انتهاج الديبلوماسية من جديد، بعد الإصرار على الاستفراد، والدعوة إلى الحروب الاستباقية، وإسقاط الأنظمة بالقوة، وازدراء المؤسسات والمنظمات الدولية.

ستعود كوندوليزا رايس إلى الشرق الأوسط في 24 آذار الجاري، لعقد اجتماع آخر مع ايهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل ومحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية. ومن المتوقع أن تجتمع مجدداً مع ممثلي مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والامارات العربية المتحدة، كما ستجتمع مع اللجنة الرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. لقد كانت زياراتها السابقة إلى الشرق الأوسط غير مثمرة ولكن لا بد من منحها علامة جيدة لإصرارها وعنادها.

وقد تشارك كوندوليزا رايس في الاجتماع الذي سيعقد في اسطنبول الشهر القادم، لمتابعة ما تم إنجازه في مؤتمر بغداد في 10 آذار الذي شاركت فيه 17 دولة ومنظمة، في محاولة لتأمين الأمن والاستقرار في العراق، وسيكون هذا الاجتماع فرصة لإجراء محادثات ثنائية مع سورية وإيران.

ومن جهة أخرى، تسعى الدول الأوروبية الرئيسية، ومن وراء الستار، إلى إقناع الولايات المتحدة برفع المقاطعة عن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية رغم مشاركة «حماس» فيها. وسيكون هذا الأمر اختباراً لاستقلالية رايس وقدرتها على إظهار براعتها. هل ستنجح في إقناع الإدارة الأميركية أم أن بلادها ستستمر في مقاطعة الحكومة الفلسطينية، تضامناً مع الموقف الإسرائيلي؟

ولكن كل هذه التطورات لا تعني أن السلام قد انتصر: هناك المتشددون الموالون لإسرائيل الذين ما زالوا محتفظين بمراكزهم داخل الإدارة الأميركية، مثل اليوت أبرامز في مجلس الأمن القومي الأميركي، وستيوارت ليفي الوزير المساعد للخزانة الأميركية، الذي كان يقود الحملة الدولية لمقاطعة النظام المصرفي والتجاري الإيراني.

ومما يثير الدهشة والاستغراب أن كوندوليزا رايس قد عينت أخيراً اليوت كوهين، وهو من نجوم الحرب على العراق، ومن المحافظين الجدد المتشددين في منصب مستشار لوزارة الخارجية الأميركية، وسيباشر عمله في الشهر المقبل. ويبدو تعيين كوهين وكأنه يتناقض مع الاتجاه الجديد في الإدارة الأميركية الداعي إلى انتهاج اليدبلوماسية، والى السعي إلى تسوية النزاعات. وهناك تفسيرات نسمعها في واشنطن لتبرير هذا التناقض الظاهر، مثل الزعم بأنه لا بد من وضع أحد المحافظين إلى جانب كوندوليزا رايس لحماية خاصرتها من الصقور داخل الإدارة الأميركية وخارجها، هذا إذا كانت جادة في دفع إسرائيل إلى المفاوضات مع الفلسطينيين.