تنشط السياسة السورية وتبذل جهوداً استثنائية قبيل مؤتمر القمة العربية الذي سيعقد بعد أيام، ذلك لأن الموقف السوري ربما سيكون من أصعب المواقف بسبب تراكمات تحققت في المنطقة وعلاقات تدهورت في السنة الأخيرة بينها وبين بعض الأنظمة العربية أدت إلى برود العلاقات السورية خاصة مع المملكة العربية السعودية ومع مصر والأردن،

وبسبب ضغط التطورات والأحداث في لبنان وفلسطين والعراق وفي المنطقة عامة، مما بدا معه وكأن الموقف السوري مختلف عن المواقف السياسية للدول العربية المؤثرة، فضلاً عن زيادة اتساع الفجوة حتى كادت السياسة السورية تخرج عن السرب أو يتم التعامل معها وكأنها خرجت عن السرب فعلاً.

إن أبرز الأسباب المباشرة (أو المنظورة) هي اختلاف الموقف السوري عن المواقف العربية الأخرى تجاه الأزمة اللبنانية وعلى رأسها الموقف من المحكمة ذات الطابع الدولي، وتشكيل الحكومة اللبنانية، وتجاه الدور السوري في لبنان،

حيث تتهم بعض الأطراف اللبنانية في معسكر الحكومة سوريا ويشاركها في الاتهام عرب آخرون بأنها لاتريد إقرار المحكمة الدولية من حيث المبدأ ومهما كان نظام هذه المحكمة، كما لا تريد في الوقت نفسه تشكيل حكومة وفاق وطني لبناني لا يكون للمعارضة اللبنانية دور أساسي فيها وقدرة على إسقاطها في أي وقت

وبالتالي إذا اقتضى الأمر تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان والسعي لإقرار قانون انتخاب يحقق للمعارضة الفوز بأكثرية المقاعد النيابية في الانتخابات المقبلة، واستطراداً عودة حلفاء سوريا إلى المجلس النيابي وعودة النفوذ السوري أو على الأقل الدور السوري الفعلي والعلني معهم، خاصة وأن قوى الأكثرية اللبنانية أخذت منذ فترة تتعامل مع سوريا كأنها العدو الأول.

ومن الأسباب المباشرة والرئيسية التي ساهمت في برود العلاقات السورية مع بعض البلدان العربية هو اتهام سوريا بأنها أسست محوراً مع الحكومة الإيرانية يشكل في نهاية المطاف جزءاً من ما سمي (بالهلال الشيعي) أو على الأقل يعطي مشروعية لهذا الهلال المزعوم ومشروعية أخرى للنشاط الإيراني في المنطقة الذي تنامى إلى حد بعيد وأصبح مؤثراً إلى الدرجة التي صارت فيها إيران شريكاً في رسم سياسة المنطقة والتأثير بمستقبلها ومستقبل بعض الدول العربية..

ومن الأسباب أيضاً نتائج خطاب الرئيس بشار الأسد الشهير في الصيف الماضي بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي اتهم فيه بعض القادة العرب بالتواطؤ مع العدوان ووصفهم بأنهم (أنصاف رجال) ولم تنفع المحاولات السورية في تفسير هذا الخطاب بأن المعني هو قادة لبنانيون أو قادة من الصفوف الدنيا،

وقد أثار ذلك الخطاب غضب الرئيس حسني مبارك الذي رد عليه علناً، وغضب السياسة السعودية التي عبرت عن استيائها بشكل غير مباشر ومازالت حتى الآن مستاءة، مما أوصل العلاقات إلى حدودها الدنيا،

ورفضت الحكومة السعودية منذ ذلك الوقت استقبال أي مسؤول سوري أو إيفاد مسؤول سعودي إلى سوريا باستثناء وصول الوزير الذي حمل دعوة الرئيس الأسد إلى حضور القمة، كما رفضت الاستجابة لوساطات عديدة غير معلنة من شأنها إصلاح الحال وعودة العلاقات إلى دفئها التاريخي.

لقد دخلت الحكومة السعودية دخولا مباشراً وكثيفاً في شؤون المنطقة، فعقدت اجتماع مكة بين الفلسطينيين الذي توصل لحل تعذر قبل ذلك الوصول إليه، كما عملت وتعمل على حل الأزمة اللبنانية والتوصل إلى وفاق بين اللبنانيين بالتشارك مع إيران وحققت خطوات إيجابية هامة أقلها تهدئة الأوضاع الداخلية اللبنانية بانتظار وصول الأطراف المختلفة إلى حل.

واستخدمت إمكانياتها للتأثير بتطور الأحداث في العراق، وأدى ذلك تلقائياً إلى تهميش الدور السوري وإضعاف العلاقات السورية الإيرانية وبذر بذور اختلافات محتملة، وتراجع الدور السوري في حل الخلافات الداخلية في فلسطين وإعطاء مزيد من القوة والاطمئنان للقوى المعادية لسوريا في لبنان.

ترى السياسة السورية أن برودة العلاقات مع بعض الدول العربية لا تعود للأزمة اللبنانية ولا لقيام ما يسمى بالمحور السوري الإيراني، وإنما هو استجابة للرغبة الأميركية والأوروبية في تحجيم الدور السوري وإضعافه وعزله وحصار سوريا لأنها حسب رأي المسؤولين السوريين هي الوحيدة التي بقيت تحمل القضية العربية والهم القومي وترفض المساومة عليهما،

وأن لا شأن للأسباب الأخرى المتداولة في برودة العلاقات وعزل النظام السوري وتجريده من أوراقه ونفوذه ودوره في تقرير مستقبل المنطقة استجابة للاستراتيجية الأميركية وعلى رأسها إقامة الشرق الأوسط الجديد.

لهذه الأسباب نشطت السياسة السورية نشاطاً استثنائياً في الأسبوعين الأخيرين أقله إيفاد نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع إلى مصر وإلى الجزائر وتونس وليبيا والسودان واليمن وغيرها من البلدان العربية يحمل رسائل من الرئيس بشار الأسد إلى رؤساء هذه البلدان وتفويضه بعرض الموقف السوري كما تراه الحكومة السورية ومحاولة كسب مواقف هذه البلدان في مؤتمر القمة القادم، تمهيداً لفك الحصار المحتمل للموقف السوري، وتفادي إشكالات قد تزيد العلاقات سوءاً من بعض البلدان العربية وهذا ما لا تريده سوريا.

قيل أن الرئيس مبارك أسمع فاروق الشرع كلاماً لا يبشر باحتمالات استئناف علاقات إيجابية بين البلدين بل انه جدد استياءه من السياسة السورية عامة، رغم أن الشرع صرح بعد انتهاء الزيارة بأن الدفء أخذ يعود إلى العلاقات السورية ـ المصرية

كما قيل أن الخطة السعودية من دعوة سوريا لحضور مؤتمر القمة تتلخص بأن سورية قد ترفض المشاركة في المؤتمر وتكون بذلك قد عزلت نفسها بنفسها أو أنها ستشارك فيه وستحاول السياسة السعودية عندها عزلها من خلال القرارات التي ستتخذ، وفي الحالات كلها فإن الموقف السوري سيكون في المؤتمر شديد الصعوبة، إلا إذا افلح فاروق الشرع بتحشيد الدول العربية الأخرى حول سوريا وإنقاذها من ورطة محتملة،

أو إذا غيرت سوريا من مواقفها وخاصة موقفها اللبناني ووافقت على تشكيل المحكمة والحكومة حسب المبدأ اللبناني الشهير لا غالب ولا مغلوب، ولعله من الصعب أن تغير سوريا سياساتها اللبنانية خلال أسبوع واحد وقبل عقد القمة إلا إذا تم عقد صفقة هامة مع جهة ما تعطيها الأمان وتعوضها عن خسائرها المحتملة ودورها في لبنان المعرّض للتراجع.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)