الاتحاد / د. برهان غليون

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها الرأي العام العربي بمختلف اتجاهاته وتباينها حول العراق. ومنها أسئلة تتعلق بطبيعة المقاومة وربما بمشروعيتها، ومنها ما يتعلق بعواقب هذه المقاومة وما يمكن أن تحمله للعراق، ومنها ما يتعلق بأثرها على النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط والعالم العربي عموماً، ومنها ما يتعلق بتكوينها شبه الطائفي أو بغياب الفكر العقلاني والعلماني فيها وسيطرة التيارات الدينية عليها، ومنها أخيراً ما يتعلق بمخاوف كثير من العراقيين من نتائج خروج القوات الأميركية من العراق تاركة إياه في مهب الفوضى والاقتتال الأهلي.
ينبغي القول بداية إن ما حصل في العراق هو أمر طبيعي. فالأمر الطبيعي أن كل احتلال يولد مقاومة للمحتل لا محالة. لكن طبيعة المشروع الاحتلالي الأميركي للعراق، والظروف التي حصل فيها بعد حقبة طويلة من الحكم التعسفي الفردي المطلق... قد شوش وعي العراقيين ويقسمهم بين من يعتقد أن التدخل الأميركي كان مخرجاً من الطغيان، ومن ينظر إليه باعتباره خرقاً لا يغتفر للسيادة الوطنية. والحال أن المشروع الأميركي كان بطبيعته كالسم المدسوس في العسل، فلم يكن تحرير العراق هو هدف الأميركيين، ولا يمكن لمثل هذا التحرير أن يكون هدفاً لأي دولة أجنبية. ما كان يهدف إليه الأميركيون هو إعادة ترميم سيطرتهم المزعزعة على المنطقة من خلال السيطرة على العراق، وفي سياق التنافس الدولي المتزايد بين القوى الكبرى على السيطرة الدولية. وقد استخدمت واشنطن لتحقيق مشروعها، تحالفها مع قسم من المعارضة العراقية حتى لا يبدو ما تفعله احتلالاً من الطراز الاستعماري المباشر. وبالمثل، لم يكن شعب العراق، كما تميل إلى تأكيد ذلك أطراف المقاومة المسلحة، صاحب سيادة حقيقية، ولو كان كذلك لما انقسم أمام التدخل الأميركي. لقد كانت السيادة من شأن الحاكمين أنفسهم. أما شعب العراق فكان ضحية الطغيان فحسب. وهذا ما يفسر موقف قسم كبير منه إزاء الاحتلال، بل تعاون ممثليه مع ذلك الاحتلال في نظام لا يزال قائماً إلى اليوم. وهذا ما تعبر عنه أيضاً مشكلة المقاومة للاحتلال. فهي مقاومة تقتصر على طرف واحد من أطراف العراق ولا تشمل جميع أبنائه. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكانت المعارضة شاملة ولم تتخذ طابعاً شبه مذهبي وتحيّد إلى حد كبير جميع العناصر الديمقراطية أو شبه العلمانية.
وما ضاعف من مشكلة المقاومة العراقية، أنها استغلت من قبل قوى متعددة، داخلية وخارجية لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالدفاع عن سيادة العراق ولا عن مصالح الشعب العراقي. ففريق "القاعدة" والعديد من القوى القريبة منها، أرادت أن تجعل من العراق ساحة للحرب العالمية ضد "الطاغوت الأميركي" والغربي عموماً، أي ساحة جهاد إسلامية شاملة، ولا يهمها تحرير العراق بقدر ما يهمها ضرب الأهداف الأميركية، أو جعل العراق فخاً للأميركيين، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة تورط الأميركيين فيه. وبعض الدول المجاورة حاولت الاستفادة أيضاً من مقاومة العراقيين للاحتلال في سبيل الضغط على الولايات المتحدة وإجبارها على القبول بتنازلات سياسية لصالح هذه الدول التي لا تخفي أهدافها.
من هنا أعتقد أن تحرير العراق وتحقيق مصالحه الوطنية، يستدعي الاعتراف باختلاف وجهات النظر بين العراقيين والعمل على التقريب فيما بينها، من وراء شعارات دعم المقاومة والتمسك بالاحتلال، مع الإيمان بأنه لا يوجد أي سبب يجعلنا نعتقد أن العراقيين الذين لم يؤيدوا المقاومة الراهنة يقفون ضد استقلال العراق وسيادته. فهذا الكلام لا معنى له. وبالمثل ليس هناك أي سبب يجعلنا نعتقد أيضاً أن العراقيين الذين يقاتلون ضد الأميركيين يفعلون ذلك ليستعيدوا سيطرتهم الكاملة على العراق. وأنا أعتقد أن التوصل إلى تسوية وتفاهم بين العراقيين يمر حتماً بخروج القوات الأميركية من العراق. مما يعني أنه لا بد أن تجري مفاوضات التسوية العراقية- العراقية بالتوازي مع المفاوضات المتعلقة بانسحاب القوات الأميركية. وكلاهما، المفاوضات العراقية- العراقية والعراقية –الأميركية، لا أمل لها في التوصل إلى نتائج إن لم تكن جزءا من مفاوضات دولية تشمل مشاكل الإقليم المشرقي برمته، وتحصل تحت إشراف أممي، وبمشاركة جميع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية. فقضية العراق لم تعد عراقية محضة، ولا يمكن أن تحسم من طرف العراقيين لوحدهم. وكذلك قضية الاحتلال الأميركي للعراق الذي كان أكبر تجسيد لسياسة الانفراد الأميركية وفرض الأمر الواقع بالقوة المسلحة، ليس على العراقيين والعرب والإيرانيين فحسب، وإنما على حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم، بل على الرأي العام الأميركي نفسه الذي خدعته الإدارة الأميركية عندما صورت له وجود أسلحة دمار شامل بيد النظام العراقي السابق تهدد المصالح الأميركية وربما التراب الأميركي نفسه.
نعم للتفاهم بين الأطراف العراقية، بما يتطلبه ذلك من وقف التعاون مع نظام الاحتلال ونزع سلاح جميع الميليشيات، في إطار التسوية العامة التي تشمل انسحاب القوات الأميركية من العراق، ولا خوف هناك، أو لا ينبغي أن يخاف البعض أيضاً من نتائج انسحاب هذه القوات. ورغم أنه لا ينبغي التقليل من المخاطر التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا الانسحاب، فإن تحقيقه في إطار مفاوضات عراقية وإقليمية ودولية، يؤمن شروطاً كافية للثقة بمستقبل العراق. ومن هنا كانت ضرورة أن يكون حل المسألة العراقية جزءاً من العمل للتوصل إلى تسوية عامة تشمل، بالإضافة إلى تفاهم العراقيين، تفاهم الدول الكبرى ودول الإقليم من أجل تثبيت السلام والأمن في المنطقة المحيطة بالعراق. وهو ما لا يمكن الوصول إليه من دون حل المشاكل الأخرى العالقة في هذا الإقليم؛ من مشروع التخصيب النووي الإيراني إلى المسألة الفلسطينية إلى المسألة اللبنانية والسورية. ومن الممكن في هذه الحالة، إذا لم تتمكن الحكومة العراقية الوطنية من السيطرة على الأمن في البلاد، الاستعانة بقوات دولية أو عربية، تكون ذات مهمة واضحة ومحددة لدعم الحكومة، تنسحب بموجبها في وقت محدد من العراق لتترك تسييره وحكمه للعراقيين وحدهم. وفي اعتقادي لا ينبغي لأحد أن يخاف من مثل هذه التسوية التي يطمح إليها كل العراقيين اليوم للخروج من الفوضى والاقتتال والدمار. وتقع في هذا المجال مسؤولية أساسية في إطلاق مبادرة شاملة على دول الجامعة العربية، أي على مؤتمر القمة العربي الحالي. فالتردد الذي وسم سلوك العرب في هذه القضية، إن لم نقل الاستقالة السياسية، سواء أجاء تلبية لمصالح محلية أو خوفاً من ردود الأفعال الأميركية، قد كلف العراق والعرب عموماً ثمناً باهظاً من النواحي الإنسانية والاستراتيجية والسياسية. ولعل مأزق واشنطن الذي لا مخرج منه في العراق يخلق الآن الظروف لتجاوز مرحلة الشلل العربي ويفسح المجال أمام العمل الدبلوماسي العربي والإقليمي والدولي الفعال الذي طال انتظاره.