نانسي بيلوسي في دمشق غير آبهة باحتجاجات رئيس البيت الأبيض. فهي مسلحة بغالبية نيابية ديمقراطية في مجلس النواب الذي ترأس وبغالبية رديف في مجلس الشيوخ تدرك أن الأوان آن لتصحيح سياسات الولايات المتحدة في العالم الخارجي بعد الذي تلقته من اخفاقات ذريعة في حقبة جورج بوش وبطانته، وبعد النزيف المعنوي الهائل الذي تعرضت له سمعة بلدها وهيبته في العالم على يد نخبة سياسية محافظة ومتطرفة لا تعرف من السياسة سوى الحروب والحصار وابتزاز الأصدقاء وتنمية معسكر الأعداء.

توقيت زيارتها دمشق بالغ الدلالة: لحظة بدء الهجوم السياسي المعاكس على البيت الأبيض ورئيسه من طرف الديمقراطيين في الكونجرس وأولى وقائعه كبح جماح ادارة بوش في العراق بإرغامها على جدولة الانسحاب العسكري شرطاً لتمويل احتياجات الجيش. واللحظة هذه لحظة بدء كما ذكرنا، لأن اجراءات أخرى لتقييد سلطة بوش سيقدم عليها الكونجرس منعاً لتفرده بالقرار، وخاصة في القضايا الكبرى التي قد تغرم أمريكا، وتصحيحاً لأوضاع شاذة لا يرغب الديمقراطيون في انتهاء ولاية بوش قبل تصفيتها حتى لا يرثوها في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد عام ونصف العام، بل حتى يمكنهم أن يستثمروا أكثر في هزيمة سياسية مذلة لبوش وللجمهوريين وللمحافظين الجدد.

زيارة بيلوسي مزودة بكل الأسباب التي تحيطها بالقوة وترفعها إلى مستوى التحدي الذي لا تقوى على جبهه ادارة بوش. فهي زيارة امرأة تشغل منصب رئيسة مجلس النواب ويدعمها موقف الغالبية النيابية. وهي زيارة تستفيد من هزائم الادارة المتكررة في العراق ومن حال الاحتجاج الجماعي الأمريكي على سياسات تلك الادارة. وهي زيارة تتغذى من التدهور المروع لشعبية جورج بوش لدى الرأي العام وبلوغها حضيضاً ما بلغته شعبية رئيس أمريكي قبلا. ثم انها تستند إلى ما يشبه الاجماع السياسي بين الحزبين الرئيسيين على الحاجة إلى تغيير سياسة أمريكا في العراق والمنطقة على نحو ما عبر ذلك الاجماع عن نفسه في تقرير بيكر هاملتون قبل حوالي أربعة أشهر، وأخيراً فالزيارة تبني على سابقة سياسية طرية كسر فيها البيت الأبيض مقاطعته لسوريا واضطر إلى فتح حوار معها ومع إيران حول الأوضاع في العراق ولو جزئياً ومن دون ضجيج سياسي أو اعلامي يفضح عجزه وتسليمه بالأمر الواقع.

ليست زيارة بيلوسي إلى دمشق تفصيلاً صغيراً في يوميات السياسة الأمريكية حتى يمكن أن يقال مثلا وعلى نحو ما يوحي بعض التصريحات الرسمية ان في وسع الادارة الأمريكية استيعاب نتائجها وذيولها سريعاً، وانما (الزيارة) حدث يقارب الانعطاف في مجرى علاقة النظام الأمريكي بسوريا منذ احتلال العراق، وخاصة منذ المقاطعة الأمريكية لسوريا في نهاية العام 2003. إنها ليست مبادرة من امرأة نائبة في الكونجرس تعكس موقفاً شخصياً لها من مواقب ادارتها الحاكمة، ولا هي وجهة نظر الحزب (الديمقراطي) الذي تنتمي إليه بيلوسي، وانما هي أولاً وأخيراً تعبير عن موقف مؤسسة التشريع في الولايات المتحدة الأمريكية. والموقف هذا يقول إن الأبواب التي تقفلها الادارة يستطيع الكونجرس ان يفتحها: وأبواب دمشق من تلك الأبواب.

وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأن تدشين معركة الكونجرس مع الرئاسة في مجال السياسة الدولية بزيارة دمشق انما هو من باب تحدي مواقف جورج بوش المتصلبة تجاه الحوار مع سوريا، أو من باب الإمعان في اغاظته أكثر بعد الصفعة التي تلقتها سياسته العراقية في مجلسي النواب والشيوخ، ذلك أن دمشق تبدو اليوم للمعارضة في أمريكا، الماسكة لسلطة التشريع، المكان المناسب للتفكير في كيفية اخراج أمريكا من مأزق ذهبت إليه بعيون مفتوحة وعقل مغلق، وفي كيفية إعادة بناء ثقة دول المنطقة في السياسة الأمريكية مع ادراك ما سيكون على أمريكا أن تدفعه لتلك الدول وأولها سوريا لقاء مساعدتها على الخروج من النفق المسدود.

وحين يكون الهدف من الزيارة بحث الموقف الاقليمي المشتعل سعياً وراء تصويب علاقة خاطئة لواشنطن بدول المنطقة وقضاياها، يكون معنى ذلك أن سوريا باتت شريكاً في تناول أزمات هذه المنطقة في نظر المعارضين لسياسات بوش من داخل النظام الأمريكي وليس فريقاً مدعواً إلى الامتثال لإرادة بوش وإلى تنفيذ املاءاته على نحو ما أراد ذلك رئيس البيت الأبيض وظن في نفسه القدرة على فرضه! وللشريك حقوق تعرفها بيلوسي ويعرفها الكونجرس، وقد لا يكون لديهما الاستعداد الفوري للتسليم الكامل بها، غير ان مجرد طرق أبواب دمشق ودعوتها إلى الحوار يفتح الطريق أمام التفاوض حول كل شيء: كل ما لا يرضاه جورج بوش وبعض ما لا يرضاه خصومه الديمقراطيون.

ينبغي أن نتذكر جيداً أن زيارة بيلوسي لا تغيظ جورج بوش فحسب، بل تشطب سياسة كاملة بناها في مواجهة سوريا وأقامها على قائمة من الاتهامات: رعاية “الارهاب” (يقصد المقاومة الفلسطينية و”حزب الله”) وتسهيل تدفق السلاح والمقاتلين إلى العراق عبر الحدود، و”زعزعة استقرار” الوضع السياسي في لبنان من خلال تأييد المعارضة ورئيس الجمهورية ضد حكومة فؤاد السنيورة، والتحالف مع إيران. إذا لم يكن في وسع زيارة بيلوسي أن تنفي عن سوريا هذه “الاتهامات”، ففي وسعها على الأقل أن توحي بأن الحوار مع سوريا ضروري وحيوي حتى مع وجود خلاف و”اتهامات”. الأهم من ذلك ان الزيارة تخرق حصار بوش لسوريا وتجدد اعترافاً درجت عليه الادارات الأمريكية قبل عام 2000: لا بديل من التفاهم مع دمشق في مسائل الحرب والسلم والأمن والسياسة في المنطقة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)