الحلقة الأولى

في التاسع من نيسان 2003 كنت أعيش في عالم شبه خيالي أو افتراضي، مصطنع محاطاً بالأضواء وتحت ضغط وملاحقة وسائل الإعلام التي تذكرت فجأة وجودي وقذفتني الأحداث المتلاحقة في خضم الضوضاء الإعلامية وصرير الكاميرات مع مايدور في داخلي من ترقب وخوف وفرح مكبوت في آن واحد. أتنقل من إذاعة إلى أخرى ومن ستوديو تلفزيوني إلى آخر ومن جريدة أو مجلة إلى أخرى. والكل يتساءل هل تصدق ما يحدث ؟ وهل سيسقط النظام ؟ وماذا بعد؟ وكانت مسألة ساعات ولحظات متلاحقة سريعة تلهث وراء تطورات الأحداث والمعارك. كانت لحظة تاريخية فاصلة في حياتي وعلي أن أقرر على الهواء مباشرة وأمام ملايين المشاهدين والمستمعين والقراء ماذا سافعل بعد سقوط الطاغية والانتقال من وضع المنفى المؤلم الذي دام ثلاث عقود ونيف إلى غد مليء بالتساؤلات والمغلف بالمجهول.ومن على شاشة القناة التلفزيونية الوطنية الفرنسية الثانية أعلنت عن عودتي الفورية في أول فرصة سانحة . أتخذت قراري بدون تفكير أو حسابات مسبقة وعلى البث المباشر ، بالعودة إلى أحضان الوطن المنتهك منذ عقود طويلة ومايزال للأسف. كان ذلك القرار يعني اقتحام المغامرة وركوب الصعاب وحدث الذي حدث وغرق العراق في اربعة اعوم عجاف متخمة بالمآسي والدمار والدماء والمعاناة والهجرة القسرية للملايين والتطهير العرقي والطائفي كنتيجة لم تكن حتمية لذلك المخاص الصعب والدامي الذي جرنا إليه السياسيون المحترفون لمهنة المعارضة ليحلوا في مواقع ومناصب الطاغية وأركانه وأعوانه من المجرمين وكان بالإمكان تفادي الكارثة. ماذا يمكننا أن نقول اليوم عن هذا البلد المثخن بالجراح ؟ هل هناك إيجابية واحدة لهذا الزلزال الكبير الذي هز كيان أرض الرافدين؟ منذ الغزو الأمريكي إلى خطة فرض القانون والعراق يدفع الثمن دماءاً زكية تسيل من أجساد أبنائه البررة الأبرياء والأرقام لاتعكس الواقع الحقيقي لما يحدث على أرض الواقع بل هي أدنى منه بكثير.

فالإحصاءات غير الرسمية تشير إلى وقوع 650000 ضحية من بين السكان العراقيين بينما تشير الإحصائية الرسمية إلى 100000 قتيل وحوالي 3500 من الأمريكيين وأكثر من 32000 من الجرحى بين صفوف القوات الغازية على مدى السنوات الأربعة المنصرمة وقد عاد أغلبهم إلى بلدهم مقعدين ومعوقين ومشوهين جسدياً ونفسياً ومحطمين معنوياً إلى الأبد وفي نفس الوقت يعيش مئات الآلاف من الجرحى والمعوقين والمشوهين العراقيين في جحيم اللامبالاة وغياب العلاج في عراق اليوم ويفتقدون إلى ابسط وأدنى وسائل العيش الكريم لاسيما ذوي الاحتياجات الخاصة . فلماذا كل هذا الألم والعذاب؟ مالذي يبرر ذلك؟ هل هو فقط إدعاء تخليص العراقيين من مخالب وبراثن وحش ذهب إلى مزبلة التاريخ غير ماسوفاً عليه يدعى صدام حسين وإنقاذهم من جور نظامه الدكتاتوري البغيض ؟ أم تحت ذريعة تقديم الحرية والديمقراطية والكرامة ورغد العيش؟ وأين هي تلك الديمقراطية الخيالية اليوم؟ لقد أوجد الأمريكيون بديلاً عنها يتمثل بشريعة الغاب وقانون البقاء للأقوى أو ألأكثر عدداً والأكثر تسليحاً ، وتأليب الشيعة ضد السنة والسنة ضد الشيعة والعرب ضد الكورد والكورد ضد العرب والمسلمين ضد المسيحيين والعكس ، وتعميق الإنقسامات والاستقطابات والاحتقانات الطائفية والمذهبية والعرقية. وغاص البلد بالتدريج ، وضمن خطة جهنمية أعدت بإحكام، في حرب أهلية ـ طائفية خطيرة لم تعلن عن نفسها ولم تكشف عن إسمها الحقيقي بعد وذلك ببساطة لأن البلد ذاته لم يعد له وجود حقيقي بل مجرد فوضى عارمة ودمار شامل وفساد مهول وقتل على الهوية وغياب الدولة والقانون والنظام وطغيان قانون القوى الإرهابية والتكفيرية والميليشيات المسلحة من كل حدب ولون.

الحصيلة على الصعيد الجيو ـ سياسي ليست أفضل بكثير من هذه اللوحة القاتمة. كان من المفترض أن يشكل سقوط نظام البعث الصدامي نقطة ارتكاز للحرب ضد الإرهاب كما سوقتها الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001 المأساوية ، بيد أن النتيجة جاء بالضد تماماً فالإرهاب ازداد عوده وتصلب ووجد ملاذاً آمناً جديداً وبديلاً عمٌا فقده من ملاذات سابقة انكشف أمرها في الباكستان وأفغاستان حيث عشعش في أرض السواد وصار يستأصل الحرث والنسل ويفرض عليها رؤيته الظلامية . وكان يفترض بواشنطن شن حرب عالمية ضد الإرهاب الإسلاموي لأنه بات يشكل خطراً مباشراً عليها وعلى مخططاتها في العالم بل وضربها في الصميم ومن الداخل. وفي معمعة ردود الأفعال تعمدت إدارة بوش وصقورها زج العراق في دوامة الحرب على الإرهاب. وبدلاً من شن الحرب في أفغانستان والباكستان والعربية السعودية اختارت واشنطن الحلقة الأضعف أي العراق بالرغم من إن صدام حسين كان من ألد أعداء المد الإسلاموي لأنه كان يشكل خطراً عليه وعلى عصابته في السلطة. وقد كشفت آخر التقارير الوارد من أمريكا أنه لم يثبت وجود علاقات أو صلات أو اتصالات أو تنسيق بين صدام حسين وبن لادن . واليوم وفرت الفوضى العارمة في العراق الظروف الملائمة لإرهابيي العالم بأسره وتحويل ساحة العراق إلى أرض خصبة للتدريب والتأهيل والتعبئة والتحشيد ومن ثم إعادة تصدير الإرهاب إلى كل بقاع الأرض، ونسمع في الأخبار إن ميليشيات طالبان وأتباع القاعدة يستعدون اليوم لشن هجوم الربيع الكبير ودك أبواب كابول من جديدة بمباركة وتواطؤ الباكستانيين ومخابرات نظام برويز مشرف العسكري الذي أشيع عنه أنه حليف لأمريكا والغرب. فالتدخل العسكري الأمريكي في العراق هزٌ أركان التوازن العسكري والاستراتيجي والسياسي والاقتصادي الإقليمي بعد أن انهارت سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق التي اتبعها بيل كلينتون الرئيس الأمريكي السابق وظلت قائمة ومتبعة إلى يوم شن فيه جورج بوش الإبن حربه المشؤومة على العراق وفتح علبة البندور كما يقول المثل الغربي. فالمصير الذي آل إليه العراق أقنع إيران ببديهية أن امتلاك السلاح لنووي وأسلحة التدمير الشامل هي السبيل الوحيدة لتوفير وضمان امنها وحماية نفسها من الاعتداءات الأمريكية والغربية والإسرائيلية المحتملة ضدها، وبالتالي فإن من تداعيات وعواقب هذا الخيار الاستراتيجي الخطير هو جر المنطقة برمتها إلى سباق تسلح نووي محموم سوف يضعها بلا شك على حافة الهاوية.

فالوجود العسكري الأمريكي الكثيف على تخوم إيران وبمحاذاة حدودها وتطويقها من جانب العراق وأفغانستان وتركيا والخليج، قد دفع الإيرايين إلى التخلي عن الزعماء المعتدلين من أمثال السيد محمد خاتمي واختيار رئيس متشدد ومتطرف وشعبوي ديماغوجي هو محمود أحمدي نجاد، لا يتوانى عن استخدام كل ما من شأنه استفزاز خصومه واللجوء إلى كل الوسائل الممكنة للضغط والتهديد لإيصال الرسائل لأعدائه بما فيها العبارات النارية من قبيل إزالة إسرائيل من الوجود محووها من الخارطة وتنظيم مؤتمر دولي حول الهولوكوست النازي وخطف الجنود والبحارة ومعاملتهم كرهائن والتهديد بمحاكمتهم قبل الإذعان للضغوط الدولية والإفراج عنهم كما حدث مع البحارة البريطانيين مؤخراً، وزيادة حجم المساعدات والأسلحة المقدمة إلى القوى والحركات الإسلامية ـ السياسية المسلحة كحزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية ، ومن ثم زيادة وتصعيد التدخل الإيراني المباشر والسافر في الشؤون الداخلية العراقية لمناكفة الأمريكيين والبريطانيين، وخلق ودعم وتسليح وتمويل ميليشيات شيعية متعددة وبأسماء مختلفة تحت ذريعة التضامن المذهبي مما دفع المملكة العربية السعودية الوهابية المذهب بدورها إلى التدخل المباشر في أتون الصراعات المذهبية والطائفية العراقية الدائرة اليوم في مختلف مناطق العراق وتقديم الدعم والمساعدات المالية للعديد من الميليشيات السنية والقوى المتطرفة التكفيرية والإرهابية . ومما لاشك فيه أن التدخل العسكري الأمريكي في العراق أضعف حلفاء واشنطن في المنطقة وعرٌضهم للإحراج . وفي الداخل الأمريكي ذاته بدأت عملية مراجعة للذات والتفكير في مرحلة ما بعد الهزيمة. فالبنتاغون يخطط سراً لعودة قواته بالتدريج، والخارجية الأمريكية تسمح بمفاوضات مباشرة مع كل من سوريا وإيران اللاعبين الإقليميين الرئيسيين والقويين في المنطقة رغم المكابرة الإعلامية برفض الحوار المباشر قبل تقديم تعهدات والتزامات من جانب هاتين الدولتين المارقتين في نظر واشنطن. ماذا بوسع العالم أن يفعل وبالأخص أوربا إزاء مثل هذه اللعبة العبثية التي تلعبها واشنطن في الشرق الأوسط؟ ليس أمام أحد من حل سوى مراقبة الكارثة مبتعداً عن أية مسؤولية أخلاقة فهل هذا هو الخيار الأفضل أو الوحيد أمام القوى الدولية الأخرى الموجود خارج الملعب السياسي الدولي كما تجلى في المسألة العراقية؟ هل نست أوروبا أن استقرار منطقة الشرق الأوسط المحاذية لها هو أمر في غاية الأهمية ، بل والأكثر أهمية لها مما هو لواشنطن البعيدة عنها ؟ يمكن انتقاد السياسة الأمريكية الهوجاء في المنطقة وإنحدارها إلى هذا المنزلق والمأزق الخطير ولكن يتعين على أوروبا ، ومن أجل مصالحها العليا أيضا، أن تساعد الإدارة الأمريكية للخروج من هذه الورطة لأن في ذلك فائدة لأوروبا على المدى البعيد.

أدركت واشنطن ، ولو بعد فوات الأوان، أن العملية القيصيرية القسرية لزرع الديمقراطية الغربية في جسم غريب لم يعرفها من قبل قد عمٌق الشروخات الطائفية والانقسامات الإثنية والعرقية والدينية والمذهبية، بالرغم من تصريحات رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري كامل المالكي أن العنف الطائفي قد انخفض إلى مستوى كبير وملموس وسوف ينتهي بفضل سياسة المصالحة الوطنية التي باشر بتطبيقها، وكذلك بفعل تعليماته بإعادة ضباط الجيش العراقي السابق من ذوي الرتب المتوسطة وبعض الرتب العليا أو إحالتها على المعاش، وتطبيق خطة فرض القانون بإسناد أمريكي وقوات عراقية مكثفة . وقد أدت المباشرة بتنفيذ الخطة الأمنية في بغداد وبعض المدن والمناطق الساخنة إلى هروب قادة التيار الصدري وعلى رأسهم مقتدى الصدر إلى إيران رغم تكذيبات المتحدث الرسمي بإسم التيار، وحدوث تصدعات في قيادته وطرد بعض كوادره بسبب لقائهم قادة امريكيين وتجاوزهم للخطوط الحمراء التي وضعها زعيمهم، وكذلك انتقال بعض القيادات الميدانية والعناصر المسلحة في جيش المهدي إلى محافظات عراقية أخرى أكثر أمناً كالديوانية والحلة والبصرة والعمارة والناصرية والنجف وكربلاء . وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته محطات تلفزة وصحف أمريكية وبريطانية بعد البدء بتنفيذ الخطة الأمنية أن 39% من العراقيين يعتقدون بأن حياتهم اليومية ووضعهم المعيشي سيتحسن وأن أقل من 25% أعلنوا انهم باتوا يشعرون بأمان أكثر في أحيائهم السكنية .

من المفارقات الملفتة للنظر أن بغداد سقطت بدون قتال تقريباً سنة 2003 بينما تعين على الأمريكيين أن يقاتلوا قتالاً شرساً لإحكام سيطرتهم على العاصمة العراقية التي تفلت من أيديهم في الكثير من أحيائها فيما عدا المنطقة الخضراء المحصنة ، وكذلك تعرضهم لهجمات مؤذية بل ومميتة أحياناً في الكثير من المدن والمناطق الساخنة كالأنبار وديالى وتكريت والموصل وكركوك وسامراء وغيرها من المدن والمناطق المتمردة لاسيما تلك التي تضم أغلبية سنية أو الواقعة غرب العراق والمتاخمة للحدود السورية.

تعرضت كافة جهود المحتل الأمريكي للإنهيار في استتباب الأمن بسبب تفجر الوضع الطائفي بين السنة والشيعة على يد عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي المجرم أثر تفجير مرقدي الإمامين العسكريين الشيعيين في سامراء في العام الماضي حيث تحولت بغداد إلى ساحة لتصفية الحسابات وعمليات الانتقام والتصفيات الجسدية بين الطائفتين الرئيسيتين في العراق. فلا أعادة احتلال الفلوجة أو استعادتها حسب التعبير الأمريكي ، وهي منطقة النفوذ الرئيسية للمتمردين المسلحين وعناصر القاعدة الإرهابيين والتكفيريين ، ولا مصرع المجرم الشهير أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين السابق ، قد أنهى تمرد المناطق الغربية ، بل بالعكس تجرأت تلك القوى والعناصر المسلحة المتطرفة على إعلان إمارة العراق الإسلامية هناك وفرضت على سكانها تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها وشكل متخلف وظلامي بسبب الغياب التام لسلطة الدولة وضياع هيبتها .

وبالرغم من الضربات الموجعة التي تلقتها تلك الفلول المتمردة والضالة إلا أنها تمكنت من ترتيب أوضاعها وتنظيم صفوفها وتكبيد القوات المحتلة خسائر بشرية لا يستهان بها وفي نفس الوقت نشر الإرهاب والترهيب وترويع السكان المدنين وقتل الآلاف بكافة الطرق والوسائل الإرهابية كالعمليات الانتحارية والأحزمة الناسفة والاغتيالات وعمليات الخطف والتعذيب وقطع الرؤوس وتفجير السيارات والشاحنات المفخخة والعبوات الناسفة المزروعة على ناصية الطريق أو في الأسواق وكراجات السيارات ومرآب النقل العام . وقد تعلمت تلك العصابات لعبة الكر والفر حيث تنتقل من مناطق تواجدها كلما تعرضت للضغط والحصار العسكري ثم تنتقل إلى مواقع وساحات أخرى لتبدأ نشاطها من جديد بنفس الأساليب الإجرامية والعنفية فيما يشبه لعبة القط والفأر. وعلى ما يبدو فإن القوى السنية المناوئة للعملية السياسية والمعارضة للسلطة الحالية لاتثق بوعود المصالحة الوطنية التي أعنلتها الحكومة . بل يمكننا القول أن قوى سنية أخرى موجودة داخل السلطة ومشاركة في الحكومة وفي العملية السياسية ولديها وزراء في الحكومة ونواب في البرلمان أعربت هي الأخرى عن استيائها من تهميشها وتجاهل مطالبها وبدأت تشن هجمات إعلامية وانتقادات لاذعة للحكومة التي تشارك فيها وتبنت خطاباً إعلامياً متأزماً . إلى ذلك لابد من الإشارة إلى أن بدايات المواجهة الطائفية كانت عندما تعرض مدنيون شيعة إلى حملة من الاعتداءات والتفجيرات الدامية وكانوا الحلقة الأضعف رغم أغلبيتهم السكانية، في استراتيجية العنف التي تبنتها القوى السنية المتطرفة والتكفيرية ، نظراً لافتقاد جماهير الشيعة المدنيين للزعامات المدربة والمؤهلة للقيادة الميدانية .

بيد أن تفجير قبتي الإمامين الععسكريين في شباط 2006 قد ساهم في تصعيد المواجهة الطائفية رغم مساعي التهدئة التي قامت بها المرجعية الشيعية ودفعت بعض العناصر الشيعية الراديكالية للرد بالمثل عبر عمليات انتقامية عشوائية ضد المدنيين السنة الأبرياء مما هدد بحدوث كارثة كادت أن تعصف بالعراق ورميه في أوتون إنقسام البلاد وتشذرمها. وقد حاول المراجع العظام التخفيف من الاحتقان الطائفي والدعوة إلى الهدوء وعدم الرد والانزلاق في فخ الأصوليين التكفيريين السنة الذين يريدون إشاعة الفوضى الطائفية وحرق البلاد برمتها بهدف إشعال حرب أهلية ـ طائفية تنسف العملية السياسية من جذرها وتأكل الأخضر واليابس وقد لمس العراقيون أوليات تلك المعارك الطائفية البغيضة من خلال تعرضهم لعمليات الخطف والقتل والتعذيب والتمثيل بالجثث وقطع الرؤوس والتهجير القسري والتطهير الطائفي والعرقي مع كل ما يترتب على ذلك من مآسي . وقد نسف هذا الوضع المستجد على الساحة العراقية آنذاك الرهان الأمريكي بشأن الإنسحاب المشرف والتدريجي في حالة تقوية سلطة الدولة المركزية وتقبل الشعب العراقي بكل موكوناته لفكرة حكومة الوحدة الوطنية الممثلة للجميع والتي من المفترض أن تكون قادرة على تحمل مسؤولية الأمن وفرض القانون والاستقرار والعمل على توفير الخدمات وإعادة دورة الحياة الاقتصادية الطبيعية إلى نصابها ومدارها المتعارف عليه والمعترف به إذ بدون ذلك سيغرق العراق لاقدر الله في سديم الفوضى القاتلة على شاكلة ما يحصل في الصومال الآن.

لقد أدرك الأمريكيون إن الإنقسامات العميقة التي برزت داخل نسيج المجتمع العراقي اليوم تعود بجذورها إلى مرحلة تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 والتي نجمت عن دمج الولايات العثمانية الثلاثة وهي البصرة وبغداد والموصل ، ولاتقتصر على المواجهة بين دعاة الديمقراطية من جهة وأتباع النظام الشمولي الدكتاتوري السابق من جهة أخرى، وإن العملية الديمقراطية الشكلية التي زرعت بالقوة في جسد العراق بين 2004 و 2005 قد ساهمت في تفاقم تلك الإنقسامات وتعميقها لأنها جرت وفق معايير وأسس خاطئة ومتحيزة وعلى رأسها نظام المحاصصة الطائفية والقومية والعرقية . فمن المعروف أن السياسة الأمريكية في العراق تتخبط في عملية تجريب عبثية تنم عن جهل مدقع بواقع العراق والعالمين العربي والإسلامي مما أثار حنق وقلق الدول المجاورة للعراق . لم يعارض الأمريكيون، ولم يبخلوا بتقيم رعايتهم وتفهمهم لصعود الشيعة إلى قمة السلطة السياسية في العراق بينما هم مستمرون في محاربة النظام الثيوقراطي الشيعي في إيران لاعتبارات كثيرة يطول شرحها يقف على رأسها طموحات إيران في القيادة الإقليمية وخطورة برنامجها النووي الذي يمكن أن يتحول بسهولة من أهدافه السلمية والمدنية إلى أغراض واهداف واستخدامات عسكرية قد تنتهي باممتلاك إيران للقنبلة النووية .وكون إيران لاعب أساسي في المناوشات المحلية على الساحة العراقية وهي تعمل على زعزعة الإستقرار داخل العراق كما يتهمها الأمريكيون وذلك من خلال دعمها وتسليحها للميليشيات الشيعية في جنوب ووسط العراق وكذلك لبعض القوى السنية المسلحة أيضاً والتي لاتخضع لسيطرة أو سطوة لحكومة العراقية .

لقد قاد هذا التشخيص الواقعي للوضع العراقي مناهضوا الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية وأعطاهم ذريعة قوية لإرغام الإدارة الأمريكية على التفاهم مع القوى الإقليمية المؤثرة وشجع الديمقراطيين على ممارسة ضغوط قوية على البيت الأبيض لسحب القوات الأمريكية من العراق بأسرع وقت ممكن وخلال عام 2008 كحد أقصى تفادياًً لوقوع كارثة أو منع التمويل الضروري لاستمرار العمليات العسكرية في العراق لكن الرئيس الأمريكي تحدى الديمقراطين وهددهم باستخدام حق النقض الفيتو بل قرر على العكس من ذلك زيادة عديد القوات الأمريكية في العراق وإضافة أكثر من 30000 جندي لحسم الأمر لصالح القرار العسكري الذي اقترحته القيادات العسكرية وتحقيق النصر مهما كلف الأمر. بيد أن الرئيس بوش تصرف ببراغماتية معقولة حيت وافق على قراءة تقرير بيكر ـ هملتون ووعد بأخذ مايراه مناسباً فيه وهو الأمر الذي ترجم بمساعي وزارة الخارجية الأمريكية لتشجيع الجهود الرامية إلى فتح قنوات دبلوماسية وإجراء حوارات ومناقشات بناءة مع دول الجوار العراقي ذات التأثير الحقيقي على الواقع العراقي والمقصود بها إيران والسعودية وسوريا للتوصل إلى توافق وتنسيق من شأنه المساعدة على الخروج من المأزق الخطير الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية داخل العراق وحسم المسألة العراقية سلمياً وسد وتجفيف منابع الإرهاب الإقليمية والعنف المستشري في أوصال العراق وذلك من خلال تنظيم المؤتمرات الدولية التي تشارك فيها القوى العظمى والدائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي واليابان وكافة دول الجوار مثل المؤتمر الذي عقد في بغداد قبل أسابيع والمؤتمر اللاحق الذي سيعقد في مصر في أواسط شهر آيار 2007 وقد تكون هذه آخر المحاولات الأمريكية لرأب الصدع أو الولوج في عنق الزجاجة وعندها سوف نقرأ على العراق السلام لاسمح الله.