أسأل الضالعين في سينما الكوارث الأميركيّة، بخيالاتها المُجنحة، وتطرُّفها المُفزع: هل بلغ الخيال الهوليوودي، في أقصى درجات كابوسيّته، حدود صياغة مشهد انهيار حوض كبير للصرف الصحّي، يُغرق البشر حدّ الموت، ويُدمِّر بيوتاً تشبه البيوت؟!
حدث ذلك حقيقة في القرية البدويّة شمال قطاع عزّة، التي اسمها ـ وللمفارقة ـ "أمّ النصر"، وقبل يومٍ واحدٍ أو يومين ـ ويا للمفارقة ـ من التئام القمّة العربيّة، ليشير إلى درجة الحضيض التي بلغتها أحوالنا، والمآل الذي انتهت إليه أمّة كانت خير من أخرج للناس!

ملايين المكعبات من المياه العادمة (وهي التعبير المُهذّب للكلمة التي يكثر تردادها في الأفلام الأميركيّة ويترجمها المترجمون المهذّبون بـ "اللعنة"). هذه "الملايين"، هطلت فجأة، كشلاّل دافق مباغت، اكتسح البيوت الفقيرة بأهلها الأشد فقراً، فغمرتهم بفيضها الكريه، لتُخلّف وراءها أطفالاً قتلى، ونساء، ورجالاً كانوا نائمين لأن لا عمل لهم يذهبون إليه في ظلّ حصار جائر، كما تركت مصابين وانهيارات كارثيّة، وحصاراً آخر يُضاف إلى الحصارات التي تمارسها إسرائيل وأميركا ومجتمع دولي اكتشفنا أنه، إضافة إلى فقدانه حاسّة البصر، فاقد لحاسّة الشّم، فلم تبلغه رائحة الهواء الفاسد السّابح في فضاءات "أمّ النصر".
"تسونامي" غزّة، كما أطلق عليه المراقبون، قد يكون أسوأ من تسونامي جنوب شرقي آسيا. هناك، انقلب مزاج البحر فألقى بمائه الوفير وأحشائه على الشاطئ ليُغرقه. هنا، الماء لم يكن ماءً. كان.. "لعنة"!
أحد الذين شهدوا تلك الكارثة المُروِّعة قال: "إنها أشد وطأة من الاجتياحات الإسرائيليّة".

الاجتياحات الإسرائيليّة تبقى هي المقياس، أمّ المصائب التي نقيس بها مصائبنا. والمسألة تدعونا لأن نقترح بأن تقوم إحدى مؤسسات المجتمع المدني ذات التمويل الأجنبي، بإجراء دراسة للرأي العام في "أمّ النصر"، تختار فيها عيِّنة عشوائيّة تطرح على أفرادها سؤالها الجوهري: أيهما أشدّ وطأة، جحيم الاجتياح أم جحيم المياه العادمة، وأيهما أكثر "لعنة"؟. لعلّ تلك المؤسسات تُسهم في الارتقاء بوعي أهالي تلك القرية وفي تحسين أحوالهم!

ربما يكون من فوائد وضع عنوان بريدك الإلكتروني في نهاية المقال، أنه يتيح لك التواصل مع قارئ تلتقي معه أو تختلف. أمّا مضار ذلك، فهي وصول رسائل سمجة من جهات لا تتمنى أن تتواصل معها، أو تتواصل معك.
آخر من وصلني من الرسائل التي تنتمي إلى النوع الثاني، رسالة من قنصليّة الولايات المتحدة الأميركيّة في القدس، هي عبارة عن "بيان صحافي" صادر في الثامن والعشرين من آذار 2007، كتبت في أعلاه عبارة وُضع تحتها خطّ بهدف إبرازها: "للنشر الفوري". أمّا العنوان فكان بالخط العريض: "القنصل العام يقدم عزاءه لعائلات ضحايا انهيار حوض الصرف الصحي في أم النصر ويؤكِّد على مساعدة الحكومة الأميركيّة في جهود التنظيف".
وفي المتن، أن القنصل الأميركي السيد جيكوب واليص، قدّم خلال لقائه بمجموعة من الصحافيين الفلسطينيين "واجب العزاء للعائلات التي فقدت قتلى وجرحى جراء انهيار حوض الصرف الصحي في بلدة أمّ النصر" واصفاً ما جرى "بالمأساة".
ولأن السيد القنصل صاحب "واجب"، فقد أعلن، من قلب القدس المُحتلّة، أن الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة على أهبة الاستعداد، وفي منتهى الجهوزيّة العالية، لتقديم احتياجات أمّ النصر.. "بما فيها غاز الطبخ"!
لم يكلِّف السيِّد القنصل نفسه بسؤال نفسه حول ماذا سيطبخ أهالي القرية المنكوبة على الغاز القادم إليهم من أمّ الهزائم. ماذا سيطبخون في ظلّ الحصار الجائر، عليهم وعلى شعبهم. ماذا يطبخون بعد أن صادرت إسرائيل/ حجزت/ نهبت/ استولت/ سرقت أموال ضرائبهم، في عمليّة قرصنة ما زالت تتمّ أمام سمع وبصر أميركا ودعمها اللامحدود للقرصان. فهل يطبخون الحصى والماء؟! أم الوعود والأوهام؟
أمّا عن المساهمة في حملات التنظيف، التي أعلن سعادته استعداد بلاده للقيام بها، فإننا نقترح عليه توفيرها، وردّ الهديّة، مع واجب العزاء، إلى حيث جاءت، واعتبارها مساهمة متواضعة من أهالي "أم النصر" في حملة لا بدّ منها، لتنظيف السياسة الأميركيّة مما علق بها من "لعنات" عمّت الكون. فالوضع في هذه القرية الفلسطينيّة المنكوبة ـ والتي لا نعفي الدولة العُظمى من مسؤوليّة ما حدث فيها ـ يبقى أكثر نظافة من "هراء" السياسة الأميركيّة وفضيحتها المُدوية.

الخبراء في الطّاقة، الذين سيعكفون على دراسة وتحليل المادة التي أغرقت "أمّ النصر"، سينتهون، دون شكّ، إلى تلك الحقيقة العلميّة المؤكدة، التي تشير إلى تحوُّلها، عاجلاً أم آجلاً، إلى مادة حراريّة قابلة للاشتعال.
وعندما تشتعل تلك المادة، ستكون "أمّ النصر"، بلا ريب، جديرة باسمها!