الحملة الشعواء التي تشنها المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة والنخب المرتبطة بها حالياً على النائب في البرلمان الإسرائيلي والمفكر عزمي بشارة، والتي تتزامن مع حملة لا تقل ضراوة ضد رئيس الحركة الإسلامية في داخل الخط الأخضر الشيخ رائد صلاح، هي في الأساس نتاج خيبة المؤسسة الحاكمة في الدولة العبرية من فشل مشروعها الكبير الهادف ل " أسرلة " الوعي الجمعي لفلسطينيي 48، و " صهينة " أجندتهم السياسية والاجتماعية. فمنذ العام 1966، عندما اضطرت الحكومة الإسرائيلية الى إنهاء الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على فلسطينيي 48، حاولت مؤسسة الحكم العبرية استخدام القوة الناعمة في تدجينهم ودفعهم نحو الأنصهار في دولة الاحتلال، والقضاء على المركبات الإسلامية والعربية والفلسطينية التي تشكل هويتهم الوطنية. ومن أجل ذلك عمدت دولة الاحتلال، على تشجيع المثقفين من فلسطينيي 48 على الإندماج في الأحزاب الصهيونية القائمة، التي حاولت اغراء هؤلاء الفلسطينيين للانضمام اليها بزعم أن هذه هي الوسيلة المثلى للقضاء على عدم المساواة التي تمارسها الدولة ومؤسساتها ضدهم. جميع الأحزاب الإسرائيلية وجدت في فلسطينيي 48 احتياطى انتخابي لها. فكان معظم فلسطينيي 48 يصوتون لحزب العمل والأحزاب التي تقع على يساره، والتي كانت تخصص مقعد مضمون لممثل عن فلسطينيي 48.

وقد شكل مشروع الأسرلة في بداية تطبيقه بعض النجاح، إذ أن نسبة من فلسطينيي 48 كانت تصوت حتى للأحزاب اليمينية مثل الليكود والمفدال وشاس. وإستطاعت مؤسسة الحكم ايجاد نخبة سياسية داخل فلسطينيي 48تعاطت مع مشروع الأسرلة وعملت على تسويقه والدفاع عنه. ومن المعايير التي وضعتها المؤسسة الحاكمة في إسرائيل لقياس مدى نجاح مشروع الأسرلة كان حرصها على قطع وشائج التقارب بين فلسطينيي 48 واخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأتبعت وسائل عدة من اجل تحقيق ذلك. من ناحية ثانية، عملت الدولة على التعامل مع فلسطينيي 48 وفق شعار " فرق تسد "، وتجاهل الرابط القومي والوطني الذي يجمع هؤلاء. فعمدت الى ايجاد مؤسسات تتعامل مع المسلمين فقط، وأخرى من البدو، مع العلم أنهم مسلمون، ومؤسسات تتعامل مع المسيحيين، واخرى مع الدروز والشركس.

لكن مؤسسة الحكم في إسرائيل صعقت عندما تبين في النهاية أن مشروع الأسرلة لم يفشل فقط في تحقيق أهدافه، بل أنه دفع فلسطينيي 48 عملياً الى تبني اجندة متحدية للدولة ومؤسساتها. وقد تمثل فشل مشروع الأسرلة لأول مرة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي عندما برزت الأحزاب العربية لتمثيل فلسطينيي 48، وأخذ يتلاشى بشكل واضح تأثير الأحزاب الصهيونية عليهم، بحيث تدنت نسبة الفلسطينيين الذين يصوتون لصالح هذه الأحزاب بشكل كبير ولافت. ولعل أكثر ما مثل لمؤسسة الحكم فشل مشروع الأسرلة، هما تطوران هامان:

أولاً: بروز الحركة الاسلامية: والتي ترى المؤسسة الحاكمة أن مجرد انطلاقها واتساعها وتمثيلها لقطاعات كبيرة جداً من فلسطينيي 48 يشكل دليلاً قوياً على فشل مشروع الأسرلة. فليس هذا لمجرد الأجندة التي تتبناها الحركة، بل لأن الحركة الإسلامية مثلت بالنسبة للكثير من دوائر صنع القرار في الدولة العبرية مشروع ل " أسلمة " فلسطينيي 48 و " فلسطنة "عيهم وتوجهاتهم.ويرى القائمون على دوائر صنع القرار في الدولة العبرية أن مواظبة الحركة على رفض المشاركة في الانتخابات التشريعية الإسرائيلية على الرغم من أن أعضاءها يتمتعون بحق المشاركة في هذه الانتخابات، يمثل دليلاً آخر على تهاوي مشروع الأسرلة. في حين ترى مؤسسة الحكم أن اهتمام الحركة الإسلامية بالانتخابات المحلية يمثل صورة من صور "التوجهات انفصالية" التي تحكم عمل الحركة الإسلامية. ولا خلاف على أن تبني الحركة الاسلامية لقضية المسجد الأقصى وإطلاع زعيمها الشيخ رائد صلاح بالجهد الأكبر في الحملة ضد المشروعات الإسرائيلية الهادفة لتهويده، قد مثل دليل على هذه المحاوف. وينطلق القائمون على مؤسسة الحكم في الدولة من افتراض مفاده أن الحركة الإسلامية تفرض على الرأي العام العربي أجندة بالغة الخطورة، مع تركيزها على التصدي للحملات التهويد التي تستهدف الأقصى والقدس المحتلة.

ثانياً: مطالبة النخب السياسية والثقافية في أوساط فلسطينيي 48 الدولة بالاعتراف بالخصوصية الثقافية والحضارية لهم داخل الدولة، مع كل ما يتطلبه ذلك من ضرورة استعداد الدولة للموافقة على تغيير طابعها اليهودي عبر سن دستور جديد. الدكتور عزمي بشارة كان اول من طرح هذه الفكرة، والتي سرعان ما قامت ثلاث جمعيات عربية بصياغتها في ثلاث أوراق عمل تدعو كلها الى صياغة دستور لإسرائيل لا يتضمن الإشارة الى الطابع اليهودي للدولة، على اعتبار أنه لا يمكن التوفيق بين ديموقراطية الدولة وكونها دولة للشعب اليهودي. هذا التطور أصاب بالفزع قادة الدول والنخب اليهودية المثقفة، التي وصفت هذه الدعوات ب " الإنقلاب " على الدولة. وتخشى دوائر الحكم من أن يشكل هذا التطور نقطة تحول نحو توجه فلسطينيي 48 نحو الدولة، بشكل قد يقود الى تنظيم عصيان ضد الدولة. مثل هذا التطور في حال تم، ستكون له تداعيات بالغة الخطورة على الحياة في الدولة، لأن الحديث يدور عن عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في قلب الدولة، وبإمكان أي تحركات تصدر عنهم التأثير على الحياة فيها بشكل واضح.

وبالإضافة الى ما سبق، فأن هناك مخاوف يهودية من عاملين بالغي الأهمية، وهما:
1- الغول الديموغرافي: ففلسطينيي 48 يشكلون تقريباً 20% من اجمالي تعداد السكان في الدولة. وفي ظل تدني معدلات الهجرة اليهودية الى داخل اسرائيل، وفي ظل تقلص عدد الولادات داخل الدولة، فأن هذا يعني أن نسبة الفلسطينيين ستقفز الى معدلات أكبر. وحسب معطيات قدمها زعيم المعارضة اليمينية في الكنيست بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر هرتسليا متعدد الاتجاهات الذي عقد مؤخراً، فأنه يتوقع أن تصل نسبة فلسطينيي 48 الى 40% من اجمالي عدد السكان،خلال عقدين من الزمان، وهذا تطور بالغ الخطورة من وجهة نظره. ويضيف أنه من الممكن أن يسيطر فلسطينو 48 على مقاليد الحكومة بدون أي وسيلة عنيفة، وذلك من خلال صناديق الاقتراع. ولقد تباهى نتنياهو علناً بأنه من خلال منصبه كوزير للمالية في حكومة شارون السابقة عمل على تقليص المخصصات التي تمنح للعائلات كثيرة الأولاد من أجل تقليص رغبة العائلات الفلسطينية في الولادة. واذا أضفنا الى ذلك التعداد السكاني للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فأن الواقع يكون أكثر حرجاً لأسرائيل، حيث أنه حسب دراسات اجريت مؤخراً، فأنه في الوقت الحالي هناك تقريباً تفوق للفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة القطاع وداخل اسرائيل على اليهود. وكما يقول الكاتب اليهودي تسفي بارئيل، فأن عدم حل القضية الفلسطينية يعني أن تتحول اسرائيل الى دولة " ابارتهايد " بكل ما تعني الكلمة، حيث أن الأغلبية اليهودية غير مستعدة للتنازل عن الحكم.

2- مشاركة فلسطينيي 48 المتزايدة في عمليات المقاومة ضد الاحتلال، حيث تشير دوائر صنع القرار في الدولة العبرية بشكل عام الى أن هناك مؤشرات على توجهات مقلقة داخل فلسطينيي 48 للمشاركة في عمليات المقاومة. ويعتبر يوفال ديسكين رئيس جهاز المخابرات، أن هذه التوجهات بالإضافة الى " التحريض " الممارس من قبل قيادات فلسطينيي 48 يشكل تهديد استراتيجي للدولة العبرية ذاتها.

تجاهل أسباب فشل " الأسرلة "

دوائر صنع القرار في الدولة العبرية تركز على ما تعتبره مظاهر فشل " الأسرلة "، لكنها في المقابل ترفض الإقرار بالأسباب التي أدت الى هذا الفشل.
فقد كان من الطبيعي أن يفشل مشروع الأسرلة، لأنه كان يحمل في طياته العديد من التناقضات البنيوية التي لم تكن معه أي امكانية للنجاح، وهذه هي الأسباب:

أولاً: أخطأت القيادة اليهودية منذ البداية عندما اعتقدت أنه بالإمكان تدجين مجموعة قومية، وأسرلتها ودفعها نحو التخلي عن مركبات هويتها الوطنية والدينية والحضارية، لمجرد اغرائها بمكتسبات وهمية. فلم يكن من الممكن أن تنجح إسرائيل التي تكرس دورها في الوعي الجمعي لدى فلسطينيي 48 كدولة احتلال طردتهم من أرضهم وتواصل العدوان على ابناء شعبهم وأمتهم، في أسرلة وعي هؤلاء ودفعهم للتخلي عن مركبات هويتهم الوطنية والقومية والحضارية والدينية.

ثانياً: حسب الفلسلفة التي أقيمت على أساسها الدولة العبرية، فلم يكن من الممكن أن يشعر فلسطينيو 48 بأنهم إسرائيليون مثل بقية سكان الدولة من اليهود. فحسب ما يعرف ب " وثيقة الاستقلال "، التي تمثل أحد اهم المصادر الدستورية للكيان الصهيوني، فأن دولة اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، وكل يهودي في أي بقعة من بقاع العالم يمكن أن يصبح " مواطناً " في هذه الدولة. بينما لا تتردد اسرائيل نزع المواطنة عن فلسطينيي 48 لأتفه الأسباب. ليس هذا فحسب، بل أن الأحزاب الصهيونية تتنافس فيما بينها في سن القوانين التي تسهل من إمكانية نزع المواطنة عن هؤلاء الفلسطينيين، كما حدث مؤخراً، عندما صادقت الكنيست على مشروع " المواطنة "، الذي يحظر فيه لم شمل عائلات فلسطينيي 48 في حال تزوجوا من الضفة الغربية وقطاع غزة.

ثالثاً: واقع التمييز العنصري الفج والكبير الممارس ضد فلسطينيي 48: فإذا كانت رانية جبران، الدبلوماسية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، و ابنة سليم جبران الذي يشغل منصب قاضي في المحكمة الاسرائيلية العليا، تجبر على التفتيش المهين من قبل دوائر الأمن، عندما تنتقل من بلد الى آخر في عملها المهني، بينما لا يتم تفتيش اليهود المدانين بالجرائم الكريمة، فأن هذا يدلل على أنه في كل ما يتعلق بفلسطينيي 48، فأن الوصول للمناصب المرموقة لا يعني بحال من الأحوال التمتع بالحياة الكريمة والاحترام الذي يصبو اليه كل مواطن يعيش في وطنه. في نفس الوقت، فأن هناك تمييز واضح ضد فلسطينيي 48 من ناحية المساعدات الاقتصادية ومشاريع البنية التحتية لدرجة أن 58% منهم هم من الذين يعيشون تحت خط الفقر. وحتى الجهاز القضائي في الدولة يميز ضد فلسطينيي 48 لكونهم غير يهود. فحسب دراسة قامت بها الباحثة ببيت تورجمان أصدرتها كلية العلوم الاجتماعية في جامعة تل ابيب بتاريخ 27-7-2006 تبين أن القضاء الاسرائيلي يفتقر للنزاهة ويصدر أحكاماً مبنية على التمييز، خصوصا ضد العرب.

رابعاً: تحريض الأحزاب السياسية والمرجعيات الدينية ووسائل الاعلام اليهودية على فلسطينيي 48 قد بلغ حداً غير مسبوق. واللافت للنظر أن الذين يتجندون بشكل واضح للتحريض ضد فلسطينيي 48 وقياداتهم السياسية هم تحديداً من النخب المحسوبة على اليسار الصهيوني. وقد اسفر هذا التحريض عن موقف عدائي من الأكثرية اليهودية تجاه فلسطينيي 48. فحسب استطلاع نشرته صحيفة " يديعوت احرنوت " بتاريخ 28-3-2007، فأن أكثر من 40% من اليهود يطالبون بمنع فلسطينيي 48 من المشاركة في الحياة السياسية. بينما يعتبر 64.4 في المائة من اليهود أن فلسطينيي 48 يعرضون أمن الدولة للخطر بسبب معدل الولادة العالي لديهم.

قصارى القول، الحملة التي تشنها إسرائيل على القيادات السياسية لفلسطينيي، أنما تأتي تعبيراً عن خيبة أمل المؤسسة الحاكمة في الدولة العبرية لفشل مشروع " الأسرلة "، والذي حمل منذ البداية بذور فشله. وإسرائيل في مواجهة هذا الفشل تتبع سياسة " الهروب للأمام " في تكثيف تصعيدها ضد القيادات السياسية لفلسطينيي 48، في مؤشر واضح على العودة الى أسلوب " القوة الخشنة " لتحجيم فلسطينيي 48.