يستطيب بعض من يدخل تحت عباءة قوى 14 آذار توجيه «اتهام» للنظام السوري بدعوى أنه يبذل ما في وسعه وأكثر، لأجل التوصّل الى احقاق تسوية مع دولة اسرائيل. يصدر عن هذا الاتهام الأول رديف له، وهو أن النظام السوري يبحث عن تسوية تتم على حساب لبنان، وأنه بمجرّد نشدانه التسوية على هوى ما ينشد، فإنه يسيء الى مصالح لبنان، هذا «اللبنان» الذي حرّر أرضه بشاهد يجري قياسه على الغائب، وعلى اجماع حول المقاومة، يعلم القاصي والداني أنه كان من باب «التهذيب»، هذا ان كان، وكفى المؤمنين شرّ القتال.

أما الاتهام الثاني الذي يتفرّع عن الاتهامين الأولين، فهو أن النظام السوري يوظّف مجهود حزب الله لحسابه، ليس لأجل مشاركته في نية تصعيد وتيرة الصراع العربي ـ الاسرائيلي وإخراجه من عقال التسوية، وانما على طريق خطف أدوات هذا الصراع في اتجاه تسوية تخدم مصالح النظام القائم في سوريا، وتؤمّن له الديمومة، بلا اصلاح ولا مصلحين.

وجه القوة الذي ينشده خطاب 14 آذار في هذا الباب هو ضمان امكانية الجمع بين حشر النظام السوري بحجة تساق من على يمينه وبين حشره بحجة تقترن بها وتساق من على يساره، بحيث يمكن اتهام هذا النظام بالمغامرة والمكابرة من جهة، وبالتواطؤ والتفريط بالحقوق الوطنية والقومية من جهة ثانية، وبحيث يكون التخليط جائزاً، بل مطلوباً، بين شتى التشخيصات اللاذعة التي وُجهت الى نظام «التصحيح» منذ «انبلاجه»، وتحديداً التخليط بين التشخيص اليميني اللبنانوي التقليدي (عمل سوريا على ابتلاع لبنان أو استخدامه كورقة أو ساحة أو صندوق بريد) وبين التشخيص القومي الجذري الفضفاض (وفيه أن نظام الأسد حركة ارتدادية عن المد القومي، شأنه في ذلك شأن نظام السادات، مع فارق ما أتيح لكل منهما).

لكن الطريف في خطاب 14 آذار في ما عنى طلب النظام السوري للتسوية مع اسرائيل، أنه خطاب يتوجه بهذه الحجة الى غريمه الداخلي، أي قوى 8 آذار، أقله بقصد «التوعية»... التوعية أو الاحراج.

يعني ذلك في المقام الأول توعية أو احراج حزب الله بالنوايا المضمرة أو المشذرة الموجودة أو المنسوبة الى حليفه، علماً بأن الحزب المذكور لم يجد ضيراً في اهداء انتصارية حرب تموز الى النظام السوري، ولم يتوقف ولا لبرهة واحدة أمام فتح القنوات الدبلوماسية السورية لسوق البيع والشراء إبان حرب تموز في ما يتصل بموضوع حزب الله، من دون لفّ ولا دوران.
قد يقال عندها إن غرض التوظيف السياسوي البحت له أن يسوّغ لقوى 14 آذار هذه الوجهة. المشكلة هنا أنه لا جدوى من ذلك. كما لا نفع من التذكير اللبناني المستديم بأن الجبهة السورية ساكنة منذ حرب تشرين ,1973 وأن الجبهة اللبنانية تدفع جراء ذلك الثمن. فهذا تذكير مائع وبلا طائل، لأن الجبهة اللبنانية تدفع منذ السبعينيات، ثمن سكينتها ما بين نهاية الأربعينيات ونهاية الستينيات، ولأن فتح الجبهة السورية ليس مسألة شجاعة وحماسة وعنتريات ليس الا. والود لو نسأل هنا أولئك الذين لا يتوقفون عن الدعوة الى فتح الجبهة السورية هل سيسعدون بالأمر لو تحقّق بالفعل، أم أنه سيضيف مصيبة جديدة فوق هرم مصائبنا؟

لأجل ذلك، فقد آن الأوان في معشر 14 آذار لمصارحة الذات. لا ضير بأن يندّد بكامل سياسات النظام السوري، ولا بأس بأن يجري استبداله في أنسب وقت، لكن التنديد الاعتباطي به لن يكون تنديداً سياسياً، طالما أنه يستهل باتهام النظام السوري بالنية في ابرام تسوية مع اسرائيل، أو باتهامه بأنه يريد استرجاع الجولان على حساب لبنان.
وإنما وجب اتهام النظام السوري بما هو يرسب فيه منذ عقود، وهو عجزه لأكثر من سبب عن ابرام هذه التسوية، وعدم أهليته للنهوض بشروطها، ولا للنهوض بشروط ما يلزم لتحمل أكلاف الفترة الفاصلة بين النضال لأجلها، بكافة الوسائل المطلوبة والنافعة، وبين ابرامها.

النظام السوري لا يريد التسوية التي لا يملك شروطها، خصوصاً في فترة ليست تقدم له عروضاً بصددها. مسلك النظام السوري هذا لا تفلح في استبيانه وجهة نظر 8 آذار التي تكابر وتتفرعن ضد الاستكبار بأنواعه ثم تمني النفس بأن النظام السوري ما زالت له خيوط دولية وشخصيات تزوره وتقارير تدعو للتحاور معه. كما أن مسلك هذا النظام لا تقدر على تشخيصه وجهة نظر 14 آذار التي تتهم النظام السوري في خاصرته «المعتدلة» (تدبيره لتسوية) متناسية أن قوى 8 آذار بدورها، تقرّ بل تتفاخر بهذه الخاصرة المعتدلة والتسووية، لا سيما متى طلب من هذه القوى اقناعنا بأن النظام السوري ليس بحالة حصار، وأنه ليس نظاماً منبوذاً على الصعيد الدولي. وهذه لعلمنا، أحجية خطاب 8 آذار بخصوص الشأن السوري: اذ ما قيمة التأكيد يومياً ان سوريا لن تركع ولن تؤخذ ولن تستسلم ما دامت سوريا هذه ليست في خطر ولا في عزلة ولا في مرمى غدر الغادرين على نجدهم، قبل سواهم، يؤكدون ويعيدون ويعيدون؟

مصادر
السفير (لبنان)