تجرى غداً الأحد انتخابات مجلس الشعب في سوريا لاختيار (250) عضواً من بين ما يقارب خمسة آلاف مرشح. ومن المعلوم أن حصة حزب البعث العربي الاشتراكي هي (134) مقعداً ولبقية أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية (36) مقعداً (بمعدل 4 مقاعد لكل حزب)، أي أن حزب البعث وشركاءه يحتلون عادة ثلثي أعضاء المجلس، ويبقى (80) مقعداً فقط للمنافسة بين بقية المرشحين،

وهكذا فالانتخابات تجرى في الواقع لاختيار ثمانين مقعداً فقط، أما مرشحو حزب البعث وأحزاب الجبهة فمن المضمون نجاحهم وبفارق أصوات كبير، ولم يحدث مرة واحدة خلال الثلاثين عاماً الماضية أن فشل مرشح واحد لحزب البعث أو لأحزاب الجبهة الأخرى، وصار من البديهي لدى الناس جميعاً أنهم يفوزون تلقائياً، وتجري الانتخابات على أساس أن المحافظة هي دائرة انتخابية واحدة، وتشكل أحزاب الجبهة قائمة مرشحيها وتترك عادة بعض المقاعد شاغرة لينتخب المواطنون مرشحين آخرين من المستقلين.

لا يوجد في سوريا قانون للأحزاب ورغم الوعود العديدة من النظام السياسي بإصدار القانون فإنه لم ير النور بعد، وبالتالي لا يجوز أن يرشح أحد نفسه عن أي حزب خارج أحزاب الجبهة، وإن صادف ورشح واحد نفسه عن حزب آخر فإنه يعتبر مرشحاً مستقلاً، ولأن الأمر كذلك يخوض المرشحون معاركهم على أساس أنهم مستقلون وبدون بيان انتخابي سوى صورهم الملونة والملصقة في كل مكان،

إضافة لجملة أو جملتين غامضتين لا تدلان على شيء مثل (كلنا للوطن) أو (من أجل مستقبل أفضل) بل والأطرف أن أحدهم رفع شعاراً إلى جانب صورته هو (رأس الحكمة مخافة الله) ذلك لأنه واقعياً لا يجوز لأي مرشح أن يطرح برنامجاً يتضمن قضايا استراتيجية أو سياسية ذات طابع عام أو أيديولوجي وعليه إما أن يطرح مثل هذه الشعارات العامة أو يملأ بيانه بقضايا إجرائية وخدمية كتعبيد شارع أو بناء مدرسة أو ما يشبه ذلك،

وعلى كل مرشح أن يأخذ موافقة مسبقة على بيانه الانتخابي وهذه لا تأتي إلا إذا كان البيان كما أسلفت، كما لا يحق له عقد لقاءات جماهيرية ولذلك تراكمت الخبرة لدى المرشحين وأخذوا يحجمون عن إصدار بيانات سياسية أو أيديولوجية أو ذات طابع استراتيجي لأنها ستُرفض من الجهات المعنية واستعاضوا عنها بكلمات عامة غامضة لا معنى جدياً لها.

عدلت السلطة السورية قانون الانتخاب تعديلات إجرائية باستثناء واحدة لها علاقة بالبنية هي تحديد سقف إنفاق المرشح على حملته الانتخابية، ورأت أن تكاليف الحملة لا ينبغي لها أن تتجاوز ثلاثة ملايين ليرة سورية أي ستين ألف دولار، ولمن لا يعلم فإن هذا المبلغ يساوي راتب عضو مجلس الشعب طوال عشر سنوات، ويتساءل الناس إن من لا يتجاوز راتبه خلال الدورة الانتخابية (4 سنوات) عشرة بالمئة من تكاليف حملته فلماذا يخوض هذه الانتخابات، ويستنتجون مباشرة أنه يخوضها لوجود مكتسبات أخرى غير منظورة إما معنوية كالحصانة النيابية أو مادية (مكتسبات تحت الطاولة)، وهذا يشكل فرصة للأثرياء الجدد لخوض الانتخابات لأنهم قادرون على تكاليفها.

قاطعت المعارضة السورية انتخابات مجلس الشعب الحالية، وأصدر إعلان دمشق الذي يحتضن أكثر من عشرين منظمة سياسية (أحزاب معارضة) ومنظمات مجتمع مدني بياناً أعلن فيه مقاطعته للانتخابات ترشيحاً ومشاركة في الانتخاب، وأشار إلى أن ذلك يعود لسوء قانون الانتخاب وإجراءاته ولمنع المرشحين من إصدار بيانات أو عقد لقاءات جماهيرية مع الناخبين وعدم ضبط قوائم الانتخاب، وبسبب تدخل أجهزة الأمن في الانتخابات ومنع هذه الأحزاب من ترشيح قوائم باسمها أو بالتعاون مع حلفائها، وبالخلاصة بسبب بُعد الانتخابات عن النزاهة والحيادية.

لم يهتم الشعب السوري بهذه الانتخابات كما ينبغي، بعد أن كانت تلعب في تاريخ سوريا دوراً هاماً، فهي مناسبة للحراك السياسي والنشاط والمباراة في البرامج وإطار للنقد والنقد الذاتي، وفرصة للحوار وتأكيد التعددية والنقاش وتعميق الممارسات الديمقراطية، أما أن تكون نتائجها معروفة سلفاً ومسبقاً (على الأقل بالنسبة لمرشحي حزب البعث والجبهة) وهم ثلثا أعضاء المجلس،

وأن يشتد التزاحم على ثمانين مقعداً فقط، يمكن للأغنياء الجدد أن يستولوا عليها بمالهم وإنفاقهم ونفوذهم فكل منهم له صلته في السلطة ومتنفذ في مؤسساتها، اما أن يكون الأمر كذلك فإنه مدعاة لعدم اهتمام المواطنين ولا مبالاتهم، رغم النداءات والبيانات التي أصدرتها أحزاب الجبهة، وقد أشارت الصحف المحلية (الرسمية) إلى هذه اللامبالاة الشعبية وطالبت السلطة علناً بأن تعالجها، ولكن دون جدوى.

بقيت الإشارة إلى أنه رغم أن مجلس الشعب في سوريا هو السلطة التشريعية حسب الدستور، فإن صلاحياته محدودة جداً وحسب الدستور أيضاً، فالنظام السياسي في سوريا هو نظام رئاسي وصلاحيات الرئاسة واسعة، فلا تحتاج الحكومة مثلاً لثقة مجلس الشعب لأن الرئيس هو الذي شكلها، وجميع القوانين الهامة ذات الطابع الاستراتيجي أو السياسي أو الاقتصادي تقرها القيادة القطرية لحزب البعث وترسلها للحكومة التي تحولها إلى مشاريع قوانين يقرها مجلس الشعب تلقائياً،

ولم يحدث مرة خلال ثلاثة عقود أن بادر مجلس الشعب وأصدر قانوناً في هذا الإطار، وتختصر صلاحياته عادة في إقرار ما تحيله الحكومة إليه، ونادراً ما يراقب مجلس الشعب الحكومة أو يحاسبها بل يتصرف أحياناً وكأنه تابع لها. وهذا ما جعل الناس حسب رأي وسائل الإعلام السورية يؤمنون بأن لا أهمية لمجلس الشعب، وامتلأت الصحف بالنقد للمجلس في زواياها وافتتاحياتها وأخبارها ورسومها الكاريكاتورية.

والخلاصة: بدلاً من أن تكون الانتخابات التشريعية في سوريا مناسبة للحوار والنشاط السياسي والمراجعة والنقد وتطوير الوعي ومناقشة الصعوبات التي تواجه البلاد اقتصادياً وسياسياً ومحاولات الحصار الأميركية والأوروبية ودور سوريا الإقليمي وعاملاً لإعطاء مرجعية المواطنة دورها الذي تستحقه، وإضعاف مرجعيات ما قبل الدولة الحديثة كالطائفية والعشائرية والإقليمية، وأسلوباً لتلاحم المواطنين وغيرها، تحولت إلى إجراء شكلي لا يهتم به أحد سوى المرشحين والمستفيدين من ترشيحهم.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)