تعكف إسرائيل دائماً على ابتكار كل الوسائل الهادفة لنزع الشرعية عن حق الآخرين في انتقاد احتلالها الغاشم للأرض الفلسطينية، فضلاً عن مقاومته، وتضيق ذرعاً بالاحتجاج على ممارساتها الاجرامية ضد الشعب الفلسطيني. ولا تتوانى ماكنة الدعاية الإسرائيلية في تشويه صورة أولئك الذين يجرؤون على ممارسة هذا الحق، وتشنيعهم وتقديمهم على صورة الشيطان الذي يجب أن يخرس. وبدلاً من أن تواجه إسرائيل الرسمية حجج منتقديها وتفنيدها بحجج مضادة، فأنها غالباً ما تريح نفسها من هذا العناء عن طريق اللجوء للتشكيك في دوافع هؤلاء، وتقديم هذه الانتقادات في الاطار الذي غدا ممجوجاً، ألا وهو " العداء للسامية ".

فقد بات واضحاً أن " شيطنة " الآخر أياً كان، مادام يقاوم الاحتلال أو ينتقد ممارساته، هي الطريقة المثلى بالنسبة لمبلوري الدعاية الإسرائيلية المضادة. ونحن هنا بصدد مناقشة الآليات التي تقوم عليها الدعاية الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية في " شيطنة " الأخر، والعوامل التي تساعد على النجاح النسبي لهذه الآليات، فضلاً عن اقتراح آليات عمل عربية لمواجهة هذه الدعاية. انتقاد الاحتلال ومقاومته: فعل نازي أقامت إسرائيل الدنيا ولم تقعدها عندما قررت رابطة المحاضرين البريطانيين مؤخراً مقاطعة جامعتي " بار ايلان "، و " حيفا " الإسرائيليتين بسبب تواطؤ هاتين الجامعتين مع الاحتلال، وتورطهما في مساعدة مستوطنات الضفة الغربية. لم يحاول أي مسؤول إسرائيلي ولا حتى ممثلي الجامعتين أن ينفوا حقيقة التعاون بين هاتين الجامعتين وجيش الاحتلال ودعمهما للمشروع الاستيطاني، لكن كما هي عليه الحال دائما فقد انبرت وزارة الخارجية الاسرائيلية والسفارة الاسرائيلية في لندن لتشبيه ما أقدم عليه المحاضرون البريطانيون بقرار المؤسسة الأكاديمية الألمانية في العهد النازي عندما أمرت بمقاطعة المحاضرين اليهود الألمان.

وترتكز الحملة التي تشنها إسرائيل ضد وسائل الاعلام الاوروبية لانتقادها ممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني على نفس الآلية. فقد وجه مدير مكتب الصحافة الحكومي في إسرائيل التابع دان سيمان انتقاداً لاذعاً للصحافة الأوروبية متهماً أياها بتشجيع اللاسامية عبر تغطيتها لاحداث الصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، قائلاً " أن الفراغات في التقارير الصحافية الأوروبية ساهمت في دفع اللاسامية وتنشيطها في أوروبا". وتشن الدوائر الإسرائيلية والمنظمات اليهودية حملة مسعورة للمطالبة بإقالة البرفسور جوزيف أسعد استاذ الفكر العربي في جامعة كولومبيا، لانتقاده ممارسات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني. و ضمن جهودها لاسكات أصوات النقد لممارساتها وسياساستها ضد الشعب الفلسطيني، فقد بلغ الأمر بإسرائيل ووسائل اعلامها ومؤسسات البحث فيها إلى حد المطالبة بوضع قيود على حرية الصحافة في العالم العربي بسبب انتقادها لمظاهر القمع الاسرائيلي وتحريضها على مقاومته. فقد بات واضح اً الدور الذي لعبته مؤسسة " ميمري " الإسرائيلية التي تعنى بمتابعة ما تنشره وتبثه وسائل الاعلام في العالم العربية والتي أسسها رجل الموساد يغآل كرمون، وهو ليكودي متطرف، في تغذية الكونغرس الامريكي بالتقارير حول مظاهر اللاسامية المزعومة في الاعلام المصري. و ترتكز مشاريع القوانين التي قدمت لمجلسي الشيوخ والنواب والمطالبة بفرض عقوبات على مصر تحديداً على تقارير هذه المؤسسة. كل محاولة للشذوذ عن الرواية الصهيونية لأحداث التاريخ يعد بالنسبة لماكنية الدعاية الاسرائيلية ضرباً من ضروب اللاسامية العمياء. فقد أقامت الخارجية الإسرائيلية ولم تقعدها عندما بثت فضائية " المنار " مسلسلي " فارس بلا جواد " و " الشتات ".

وللأسف فقد نجحت إسرائيل في إقناع فرنسا بوقف استقبال بث " المنار " في فرنسا بدعوى دور القناة في ت غذية اللاسامية. المفارقة العجيبة أن اسرائيل رفضت بشكل مطلق احتجاج دولة عربية على برنامج ترفيهي بثته القناة الاسرائيلية الثالثة قبل عامين حيث ظهر فيه الممثل الإسرائيلي ايلي يسبان وهو يقلد زعيم هذه الدولة وهو يقوم بسب الذات الالهية ويتلفظ بكلمات مشينة. الحكومة الإسرائيلية عزت احتجاج هذه الدولة الى " عدم وجود تراث ديموقراطي تعددي يمنح هامش من الحرية لوسائل الاعلام !!!!".

وينعدم الصبر الإسرائيلي أيضاً ضد النقد الآتي من داخل اسرائيل. فقد طالبت حركات سياسية مرتبطة بالحكومة الإسرائيلية بمعاقبة البرفسور موشيه تسيمرمان رئيس قسم التاريخ الالماني في الجامعة العبرية لأنه وصف ممارسات جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين بأنها تشبه ممارسات النازيين ضد اليهود، وكان يعلق على ما نشرته وسائل الاعلام الاسرائيلية من تقا رير تؤكد قيام جنود الاحتلال بركل جماجم مقاومين فلسطينيين بعد قتلهم. اللافت للنظر أن قذف الآخرين ب "اللاسامية " لم ينطلي حتى على الكثيرين من المفكرين اليهود. فعالم الاجتماع باروخ كيمرلينغ لم يستسغ ذلك قائلاً " هذا ادعاء سهل جدا يلجأ اليه من يريد التهرب من الانتقادات" تجريم النضال الوطني الفلسطيني وجدت إسرائيل في " شيطنة " الآخر الحل الأمثل في محاولاتها لنزع الشرعية عن حق الشعب الفلسطيني وممثليه بالمطالبة بحقوقه و مقاومة الاحتلال، وتجريم النضال الوطني ضد هذا الاحتلال. فاعتراف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بإٍسرائيل وتوقيعه على اتفاقيات " أوسلو " وقراره بالسير نحو تسوية سياسية مع الدولة العبرية، لم يشفع له عندما تبين لصناع القرار في تل ابيب أن الرجل يتشبث بسقف الحد الأدنى فلسطينياً والذي يت ضمن اقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهنا وجدت ماكنة الدعاية الاسرائيلية فرصتها في الانقضاض على عرفات وتصويره على أنه " التوأم " الفلسطيني لاسامة بن لادن.

وقامت اسرائيل بفبركة التهم لعرفات وحملته مسؤولية العمليات الاستشهادية ، وقدمت انتفاضة الأقصى على أنها رد عرفات على المقترحات " السخية " التي قدمتها اسرائيل في مؤتمر " كامب ديفيد " الذي سبق اندلاع الانتفاضة، كما يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ايهود براك. وأصبح عرفات هو " أبو الشرور " بالنسبة لإسرائيل ورويدا وريداً تبنت الكثير من دول العالم الموقف الإٍسرائيلي من عرفات، وخصوصاً إدارة الرئيس بوش. لقد نجحت الدعاية الاسرائيلية القائمة على صناعة الأكاذيب في تحويل عرفات الزعيم المنتخب للشعب الفلسطيني من شريك لإسرائيل في التسوية السياسية الى معتقل في احدى زوايا مقره المدمر في مدينة رام الله الى أن لقى الله.

اللافت للنظر أن صناع القرار في الدولة العبرية الذين استطاعوا اقناع الكثير من دول العالم بنبذ عرفات وتجاهله على اعتبار أنه غير ذي صلة " not relevant "، كما كان يحلو للرئيس بوش أن يطلق عليه، لم يكونوا يصدقون ما يقذفون عرفات به. ويقر الوزير السابق دان مريدور الذي كان مكلفاً بالاشراف على الأجهزة الاستخبارية في عهد حكومة شارون الأولى أنه شخصياً لم يعثر على أي دليل واحد يربط بين عرفات وبين عمليات المقاومة ( هارتس 9/10/2004). في نفس الوقت رفضت الدعاية الاسرائيلية وجود المقاومة الفلسطينية كرد على الاحتلال وكرفض للتسليم بالغبن التاريخي الذي يكابده الشعب الفلسطيني، وصورت الفلسطينيين على أنهم " مجددي الفكر النازي "، كما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو. فالفلسطينيون هم الطامحون لتدمير الكيان الذي اقامه اليهود على أرض أجدادهم، حسب زعمهم. " شيطنة الآخر " تمثلت في المفهوم الإسرائيلي ل " الأيدي الملطخة بالدماء ". فكل مقاوم فلسطيني قتل أو جرح جندياً إسرائيلياً هو "ارهابي ملطخه اياديه بالدماء "، يحظر الافراج عنه أن كان معتقلاً. بينما يقلد جيش الاحتلال الضابط الإسرائيلي الذي قتل الطفلة الفلسطينية ايمان الهمص في مدينة رفح قبل خمسة أشهر وسام البطولة!!.

ولا أحد يهتم بما مرد ايهود براك على التفاخر به دوماً، عندما يعود لذكرياته كقائد ل "سييرت متكال "، أهم فرق الموت في جش الاحتلال، وتصويره حالة الانتشاء التي كان يمر بها عندما يقوم بتصفية قادة منظمة التحرير في لبنان. حيث يقول " لقد كان يعجبني تطاير بياض عيونهم بعد أن افرغ رصاصي في رؤوسهم ". تجاهل الخطايا الإسرائيلية هناك عدد من العوامل التي ساعدت على النجاح النسبي للدعاية الإسرائيلية في " شيطنة " نقاد إسرائيل و مقاومي ظلمها. منها توظيف ما تعرض له اليهود على أيدي النازيين، واستغلال الشعور بعقدة الذنب المهيمنة على العديد من الدول الاوروبية حيال ما حل باليهود، من أجل وصم كل نقد للدولة اليهودية على اعتبار أنه معاداة للسامية. في نفس الوقت فقد ساهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نجاح الدعاية الإسرائيلية في احداث انقلابات هامة في نظرة العالم للمقاومة الفلسطينية. فلم تعد الكثير من دول العالم ترى فروقاً بين تنظيم " القاعدة " وبين حركات المقاومة الفلسطينية على اختلافها. ووصل الأمر الى حد أن وقع الرئيس بوش على مرسوم يقضي بتعيين مبعوث امريكي خاص لمتابعة مظاهر اللاسامية وتقديم تقارير بشأنها لمعاقبة الأطراف المتورطة فيها.

لكن أهم عامل ساهم في نجاح الدعاية الإسرائيلية هو الدونية التي ميزت الموقف العربي حيال هذه الدعاية، والقبول العملي للأحكام التي تصدرها إسرائيل بشأن المقاومة الفلسطينية. في نفس لم يكن هناك جهد عربي منظم يعنى بالاهتمام بالشواهد اللامحدودة التي تعكس التعاطي الإسرائيلي العنصري تجاه العرب لكونهم عرباً، وشن حملة عربية مضادة قائمة على الحقائق لفضح زيف الدعاية الإسرائيلية، ومطالبة العالم بموقف صريح منها. فلم يحرك أحد من العرب ساكناً عندما قال الوزير الإسرائيلي ايفي ايتام " إني لا أصف هؤلاء الفلسطينيين بأنهم حيوانات لأنهم مخلوقات جاءت من أعماق الظلمة، وسوف نضطر لقتلهم جميعاً". ووصف وزير الصحة الاسرائيلي السابق سيما دهان عندما كان في منصبه المسلمين بأنهم " ثعالب ارتقوا بالتدريج إلى مرتبة الأفاعي والعقارب ".

لماذا لا تتحرك جامعة الدول العربية ولو من باب تسجيل الموقف المضاد لاطلاع العالم على ما آخر فتاوى صدرت عن كبار المرجعيات الروحية اليهودية التي أباحت للمستوطنين سرقة محاصيل المزارعين الفلسطينيين، بل وتسميم مواشيهم. وما المانع من مواجهة الرئيس بوش الذي يقود الحرب ضد اللاسامية بما قاله الحاخام مردخاي الياهو، أكبر مرجعية للافتاء في الدولة العبرية والذي يأتمر بإمرته ربع نواب في الكنيست الذي قال أن اليهودي الذي يبيد الفلسطينيين يؤدي فريضة أنزلها الرب. لقد كان من الممكن القاء الكرة – وبحق – في المعلق الإسرائيلي لو تحركت السفارات العربية في عواصم العالم المسيحي لاطلاع الناس هناك على نظرة المرجعيات الروحية اليهودية للمسيحية، بدلاً من حصر الاهتمام بما يصدر عن رجال الدين المسلمين وبالذات في مسألة العمليات الاستشهادية.

ويكفي هنا الاشارة الى ما قاله أحد أهم المرجعيات الدينية اليهودية الحاخام حتنائيل اتروغ الذي قال "المسيحية تشبه خنزيرا ينزع اظلافه… يموه على دناسته الداخلية… المسيحية، افعى تنفح، برازها يتسلل الى قلوب ابناء شعب الرب…". او ما يقوله الحاخام روبي فايندروف: "اذا لاحظت شرا في يهودي فانك تكون اكتشفت الجزء غير اليهودي الذي فيه ". خلاصة أن أبسط مقتضيات الانتماء لهذه الأمة يفرض التحرك لابراز الشياطين الحقيقيين وعرض صورهم، وفضح افعالهم. ليس قدراً أن تنجح إسرائيل في " شيطنة " كل من يخرج ضد الاحتلال وينتقده. تخطئ الدول العربية بمواصلة التعامل بلامبالاة مع الدعاية الإسرائيلية، التي لا تقبل غير التوافق التام ليس فقط مع الرواية الرسمية لأحداث التاريخ، بل وقبول التفسير الصهيوني لهذه الأحداث. أن أكبر رد عملي على هذه الدعاية هو الدعم العربي المطلق لحق الشعب الفلسطينين في ممارسة حقه في مقاومة الاحتلال حتى زواله، وهذا في النهاية هو الذي يجلب الاحترام لهذه الأمة