هو السؤال الوحيد على الساحة الفلسطينية وعند الفلسطينيين، اي ما العمل لاخراج الفلسطينيين من المأزق الذي لا يقفون عنده، وانما يغرقون فيه، وهو نفسه كان السؤال المركزي عند الأب الروحي والمادي للثورة البلشفية في روسيا، والذي دون الاجابة عليه لا يمكن لاية مسيرة ان تنجح في تحقيق اهدافها، وهكذا ليس مهماً طرح التساؤل بالضبط كما ليس المهم (لعن) الواقع.. وتعميق ثقافة اللطم على الخدود واليأس والاحباط.. والهروب.. وانما المهم الاجابة عليه رغم ان الاجابة ومهما كانت ستكون "مزعجة" للقوى السياسية الموجودة، وقياداتها، ومفكريها اذا كان لها مفكرون.. لأن الكارثة التي يعيشها الفلسطينيون هي اولاً واخيراً من مسؤولية القوى والقيادات.. والنخبة المثقفة ايضاً.

في وصف حالنا الفكري!
نحن نعيش في مرحلة (خواء فكري) فالدواء الذي يُعالج كل الامراض.. لم يوجد بعد.. ولن يوجد لانه لا يتفق مع منطق الاشياء.. الذي يقول بأن أي فكر جديد يوجد بعد صدام الافكار السائدة.. او الفكر مع الوقائع، بفعل المتغيرات.. ليصبح هذا الفكر عاملاً بالضد من التقدم وغير قادر على.. الأخذ بالناس على طريق التقدم نحو الأمام بل بالعكس يصبح كارثياً على المجتمع، وعلى كافة الاصعدة، وهكذا وصل الفكر السياسي، الذي يحكم القوى السياسية السائدة منذ عقود ماضية في الساحة الفلسطينية مرحلة الافلاس، وبذلك لم يعد يصلح او (انتهت صلاحيته) ومع ذلك فان من الطبيعي ان تصر القيادات على انه يصلح.. رغم نتائجه الكارثية على الارض والشعب، وفي السياسة وفي كافة مناحي الحياة وعلى القضية الفلسطينية التي اخذت تتراجع سريعاً نحو الوراء.

لا يوجد فكر.. يستند الى رؤية
وباختصار.. كل القوى السياسية وصلت مرحلة (الافلاس) وكل ما يتحدث عنه "مفكروها"! وقادتها هو اقرار لافكار سائدة.. وعبارة عن فوضوية افكار مراهقة غير مترابطة ليقولوا في حماس.. ما هو الفكر الذي يستندون اليه وأية رؤية تحكمه وهم يتقلبون في مواقفهم ذات الشمال واليمين، وكذلك ما هو الفكر الذي عند فتح.. وإلى اية رؤية يستند وما ينطبق على حماس ينطبق على بقايا ما يسمى اليسار وعلى القوى السياسية التي طرحت نفسها كبديل.. وعملياً وقبل ذلك فكرياً لا يوجد عندها اي شيء تقدمه باستثناء الاشخاص والاسماء..
كل ما عند القوى السياسية، شظايا افكار تصلح للعبة الرداحات بين المراهقين السياسيين كما هو حاصل في الجامعات بين الطلبة، وعلى الانترنت بين مواقع هذه القوى وبمنطق طفولي ساذج.. اميركا لا تحبك اذاً انت تسير في الطريق الصحيح؟! وعلى ذلك يمكن القياس..

فوضى مصالح تحت عناوين فكرية
منذ ان وجد الفلسطينيون انفسهم في حضن اوسلو لحسابات الخلاص الفردي والتنظيمي.. وشكلوا السلطة او شكلت القوة السياسية السلطة، انتهت المعركة مع الاحتلال وتحولت لمعركة داخلية بين هذه القوى السياسية، في السياسة وفي المقاومة وانطلقت من مصالح "فصائلية ضيقة" وهدفها واحد هو الاستحواذ على السلطة وكان الاخطر.. ان "المقاومة" التي شكلت الرافعة الاساسية للقضية الفلسطينية منذ ما بعد النكبة.. خضعت لفوضوية قاتلة ومدمرة، وصراع فصائل ولم تخضع لحسابات وطنية سياسية، وهكذا غابت "الرؤية" الوطنية ومعها غاب الفكر لصالح رؤى فصائلية ضيقة، وفوضى ورؤى متصادمة، وكانت النتيجة كارثية في المقاومة على الارض، وكذلك في السياسة، فاستفادت الدولة العبرية أقصى استفادة في حربها على الارض مصادرة واستيطاناً وفي السياسة.. تراجعاً في الوضع الفلسطيني على الساحة الدولية، وضعنا في الوضع الجماهيري الداخلي.. بفعل البؤس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

افلاس فصائلي..
ماذا عن حركتي حماس وفتح وباقي الفصائل والاحزاب والمنظمات في مواجهة هذا الوضع الفلسطيني الكارثي على كافة الصعد..؟!
لا يوجد اي شيء.. لا استراتيجية ولا رؤية، ولا خطط، وفكر مقنع.. كل ما هو موجود.. (فكر) صبياني لا يخرج عن المهاترات الداخلية.. من القمة حتى القاعدة وبالعكس وكل البدائل التي ظهرت خلال السنوات الماضية، لم تكن اكثر من مشاريع شخصية بحتة لم تحمل اي جديد، الذين يقولون بالمقاومة وفكرها.. يقفزون عن الاجابة على سؤال الواقع القاسي في الضفة نحو حديث بلا معنى عن الكيان الصهيوني، وفلسطين من البحر للنهر، وتصريحات مراهقة والذين يقولون بالحل السياسي يهربون من النتائج الكارثية لهذا الحل.. نحو "لا يوجد خيار غير خيار المفاوضات والحل السياسي، وهو عملياً غير موجود" ومنذ سنوات طويلة ماضية وعلى صعيد الداخل (كانت تجربة غزة) بعد انكفاء الاحتلال نحو الخلف كارثية بالفشل في الادارة الداخلية الذاتية لصالح الاقتتال الداخلي والفوضى والفلتان.. والبؤس الاقتصادي.. الذي كانت حكومة الوحدة محاولة فاشلة حتى اللحظة للاجابة عليه.

(فكر) سلطوي.. وكفى..
لم تعد القضية الوطنية، قضية الشعب الذي يهاجر والارض التي تصادر.. والكفاءات التي تهرب بالجملة، والناس الغارقين في الحصار والاذلال، وما شاء للقضية ان تكون حاضرة على اجندة "الفصائل" من اصغرها الى اكبرها فقط كل ما هو موجود ثقافة سلطة، وفكر (سلطوي).. وهذا ما دفع ويدفع ثمنه الناس قتلاً وخطفاً وبؤساً اقتصادياً وتفجيراً للمحلات، واغتراباً في الوطن.. وافتقاداً للسلام الداخلي.
ليس مهماً ما يقال في العلن.. فقط تمعنوا في كل ما يدور داخل كواليس الفصائل، لن تجدوا شيئاً سوى ثقافة السلطة وامتيازات السلطة. ومصالحها في السلطة.. وتعبث ضد بعضها ولاحظوا ان الشغل الشاغل للفصائل وقياداتها هو كيفية تقاسم الغنائم من اصغر مؤسسة او جهاز الى السلطة ومنظمة التحرير.. ماذا يعني كل ذلك غير ان شيئاً من القضية لم يعد على اجندتها الا ما يخدم مصالحها في الغنائم السلطوية.. وهكذا تحول الوطن الذي يضيع الى وسيلة.

اختصار القضية في سلطة تخدم الاحتلال
انتهت السلطة كمشروع بناء وتحرير وانهاء للاحتلال الى مشروع ينوب عن الاحتلال في ادارة الشؤون الخاصة بالسكان من تعليم وصحة وشؤون اجتماعية، وبلديات، ويعفيه من تحمل مسؤوليته "المالية" وبذلك هذا اول احتلال في التاريخ بلا ثمن.. او مدفوع الثمن، حتى في داخل السجون والمعتقلات لا يتحمل مسؤوليته القانونية في توفير المتطلبات الاولية لاي انسان من مأكل وملبس.. الخ..
وخارج ذلك.. حول الارض الفلسطينية الى سجون بكل ما يعني المصطلح عبر الحواجز الثابتة والطيارة.. وداخل هذه السجون "يقتل ويدمر" ويخرب، ويعتقل، وتجاوز عدد المعتقلين من الضفة وليس من الضفة والقطاع رقماً قياسياً منذ حرب العام 1967 بتجاوزه العشرة آلاف.. وايضاً داخل هذه السجون يحاصر الناس ويذلهم.. ويجوعهم.. بعد ان اجهز على الارض مصادرة واستيطاناً.. اليست السلطة بهذا الشكل والواقع مشروعاً يخدم سلطة الاحتلال ومصالحها.. اكثر من خدمة المشروع الوطني في انهاء الاحتلال.. والبناء.. واقامة الدولة؟!

ما المخرج؟!
كل ما عند القوى السياسية الراهنة، وقدمته، هو لعبة التجارب والاختبارات، على صعيدي السياسة والمقاومة، وكذلك على صعيد البناء الداخلي.. وكانت حكومة الوحدة، هي محاولة لانقاذ هذه القوى.. والمحافظة على وجودها فقط.. او بصيغة اخرى محاولة لتقاسم الغنائم في السلطة ومنظمة التحرير.. ولم تكن القضية حاضرة عندها وبالمطلق، فكل حساباتها فئوية صرفة.
ولا فرق في ذلك، بين حماس وفتح والجبهة الشعبية والديمقراطية وباقي الفصائل، ولاحظوا زلات اللسان لبعض القيادات (لنجرب).. نجرب المقاومة، نجرب المفاوضات، نجرب حكومة الوحدة، نجرب السلطة.. وبعد الـ(نجرب) اذا فشلنا فسنغير.. او جربنا.. هذا ولم ينفع، قولوا بربكم.. هل هذه قيادات يمكنها ان تقود القضية والشعب.. وتحرير الارض وتنقذ الناس والشعب من المأزق الذي صنعته هي.. وتقدم له فقط شيئاً من الأفق؟!
الاجابة واضحة.. كيف يمكن لقوى سياسية وقيادات افلست ولا يوجد عندها ما تقدم.. ان تنقذ - فقط- انقاذ القضية من مأزقها الراهن؟!

ضحية التغيير..
بعد وصول القوى السياسية السائدة، للافلاس.. فان بقاءها.. يعتبر ..كارثياً لواقع ومستقبل القضية الفلسطينية، لان البديل الذي بدأ يطل برأسه.. هو عبثية القوة، لتيار مغامر، وكذلك عبثية الاستسلام للواقع.. ولكل بديل من هذين البديلين اللذين يكملان الخيار الكارثي للقوى السائدة، مبرر وجوده في هذه الكارثية.. ولان التغيير اصبح خياراً حتمياً.. فانه سيكون مهما ظهرت او هكذا تقول الايحاءات بقوة الموجود.. لان هذه القوة وهمية تقوم على الفكر والتعبئة والوعي العصبوي الذي تتم تغذيته لمصالح فئوية ضيقة وقيادية خاصة..
وبما يظهر البديل العبثي، التدميري، كما عكست ذلك بعض التجارب ولعل في خطف الصحافي في غزة، وفي تدمير بعض المؤسسات واغتيال بعض الاشخاص.. مقدمة ودلالة على هذا البديل وظهوره وايضاً ربما يظهر البديل العبثي الآخر كما ايضاً دلت بعض المقدمات في الاحاديث التي ترى في التعاون مع الدولة العبرية نوعاً من الحل "للمأزق" واذا ما استمرت القوى الراهنة فان هذين البديلين الكارثيين سيسودان وهذه تجربة العراق.

مخاض التغيير
فشل في المقاومة والنتيجة عكسية، فشل في الحل السياسي، فشل في البناء الداخلي، فشل في ادارة القوى السياسية للوضع الداخلي كما تقول ذلك تجربة قطاع غزة بعد انكفاء قوات الاحتلال.. وكل هذا الفشل يعني قوة للمشروع الصهيوني الرامي للاجهاز على ما تبقى من قضية.. والاهم من ذلك ان هناك وعياً عاماً لهذا الفشل.. الذي يقود وتلقائياً لوعي "الحاجة للتغيير" تغيير القوى السياسية المسؤولة عن هذ الوضع، تغيير (الفكر)! المسؤول عن هذه النتيجة الكارثية، هذا الوعي بحد ذاته هو المقدمة التي تدل وبالقطع على ان المجتمع الفلسطيني يعيش عملياً مخاض التغيير، وليس في "العودة الجماعية والفردية" للعائلة والعشيرة كحاضنة للأمن الشخصي والجمعي القبلي، الا الدلالة على ان القوى السياسية السائدة (عيّدت)، وهي تنازع للبقاء باستغلال غير اخلاقي لحالة من (التخويف).. تخويف ما سيكون.. اذا حلت السلطة، واذا ذهبت هذه القوى دون الاقتراب من حالة التخويف الحقيقية، والمتمثلة في البديلين العبثيين، عبثية القوة، وعبثية الاستسلام.

قوى التغيير موجودة
تعيش الساحة الفلسطينية داخلياً وخارجياً، حالة من الجدل الصامت بين التيار الذي تمثله القوى السياسية الموجودة، والتي تدافع عن وجودها ومصالحها واستمرارها.. وبين قوى التغيير غير المنظمة الفوضوية حتى اللحظة، ولكنها تنتظر من يقرع الجرس..
ان الاغلبية من الشعب في الخارج والداخل، الصامتة، والتي ترفع صوتها عالياً.. تعرف حقيقة الوضع، وتعرف انه لا يوجد امامها سوى "التغيير" للخروج من الكارثة التي تتعرض لها القضية ارضاً وشعباً، حاضراً ومستقبلاً..
ان هذه القوى، موجودة في قلب فتح وحماس وفي كافة القوى وموجودة عند الـ(بدون).. ولكنها تعيش بقايا (الصدمة) وهي تنتظر من يقول لها.. انهضي.. وقبل ذلك تحتاج للفكر الواضح.. المستند لرؤية واضحة.. وهو الكفيل بجمعها.. وتأطيرها في قوة قادرة على التغيير داخلياً وخارجياً.. واعادة القضية على الطريق الصحيح.. واخراجها من براثن (سلطة) تخدم مصلحة الاحتلال.. وقلة من المستفيدين من هذا الوضع الكارثي.

وأخيراً.. ما العمل؟!
في الاطار النظري.. هناك حاجة لرؤية واضحة ومحددة تأخذ في اعتبارها وقائع اليوم محلياً واقليمياً ودولياً، وتجربة القوى السياسية الراهنة الفاشلة.. والتي وضعت نفسها في سجن (السلطة) وغير القادرة على كسر جدرانه والتحرر منه وبالتالي الانطلاق في التفكير الحر.. والذي يقول..
ان اسقاط المقاومة بكافة اشكالها هو جريمة ارتكبت وترتكب بحق القضية، بالضبط كما ان المقاومة الفوضوية العبثية والخاضعة لحسابات فصائلية ضيقة، ومقززة، وكذلك المقاومة الاستعراضية على غرار استعراض ملكات الجمال عند الجدار والحواجز.. هي ايضاً جريمة واهانة ترتكب بحق المقاومة.
ان المقاومة ليست الضغط على الزناد لاطلاق الرصاص او تفجير عبوة او اطلاق (صواريخ) تشبه الالعاب النارية، وانما هي فعل واع يقوم على حسابات دقيقة في استهدافها ونتائجها عملياً وسياسياً.. ولذلك هناك حاجة لاعادة توطين من (وطن) المقاومة وتحريرها من الجرائم التي ارتكبت بحقها.. وبكافة الاشكال على الصعيد الخارجي (المقاوم) وعلى الصعيد الداخلي (عنفاً داخلياً.. وارهاباً وبلطجة.. وزعرنة..) فالمقاومة حتى وفي اكثر اشكالها عنفاً، هي حالة جماهيرية، دونها لا تكون المقاومة التي يستغلها الآن التيار المهزوم داخلياً للنيل منها ومحاربتها.. ان المقاومة دون اطار سياسي واضح ومحدد يستند إلى رؤية الممكن الراهن في الحسابات الثنائية والاقليمية والدولية، تتحول الى لعبة عبثية مدمرة.. وهناك جانبان، الاول: تحديد هدف المقاومة الآن وبوضوح وفي ضوئه تكون ترجمتها على الارض. والثاني: وجود عنوان سياسي يتحدث بلغة واحدة وواضحة.

ان المقاومة، وبعد المتغيرات الانقلابية في العالم، لم تعد كما كانت في السابق.. وانما اصبحت تنطوي على صعوبة ولكنها الخيار الوحيد.. الذي يحتاج لادارة.. عملياً وسياسياً وواعية ومحددة ما دام الاحتلال هو سيد الموقف مصادرة وقتلاً وتهجيراً واستيطاناً واعتقالاً، وحصاراً، أما الرهان على ما يسمى (المفاوضات) و(الحل السياسي).. والاستلقاء على هذا الرهان وسجن الفلسطينيين ارضاً وشعباً واهدافاً في سجن (السلطة)!!.. فان الكارثة ستستمر في كارثيتها وكأن الفلسطينيين لم يبق امامهم سوى (الانتحار)!!
جريدة " الأيام " ـ 29 / 4 / 2007 ( رام الله المحتلة )