أحداث دراماتيكية آخذة في التسارع على صعيد المجتمع والدولة التركية، تُمثل بدورها مرحلة فاصلة في تاريخ البلاد السياسي، وخطوة هامة على صعيد الصراع التاريخي بين العلمانية والإسلام. بدا ذلك مع إعلان حزب "العدالة والتنمية" (AKP‏) ذي الجذور الإسلامية الحاكم ترشيحه "عبد الله جول" لرئاسة الجمهورية، وتفجرت مع فشل جول في الحصول على التأييد الكاف من أول جولة تصويت في البرلمان.

وبلغ الجدل ذروته مع وصول المعركة بين الجانبين إلى القضاء. فبالرغم من أن انتخاب عبد الله جول، مضمون في كل الحالات، إلا أن المعارضة العلمانية نقلت الصراع إلى "المحكمة الدستورية" بالطلب الذي تقدم به أكبر أحزاب المعارضة لاعتبار تصويت البرلمان، غير قانوني، لأن الحضور 357 كان أقل من الثلثين 367 نائباً، مما أدخل البلاد ــ على إثره ــ في أزمة سياسية حادة.

ويقول خبراء قانونيون : إن مزاعم المعارضة بإمكانية إلغاء نتيجة انتخاب رئيس الجمهورية بحكم من المحكمة ‏‏الدستورية، ليس لها سند قانوني. إلا أن الصحافة التركية توقعت قراراً ــ من المحكمة ــ لا يصب في مصلحة "حزب العدالة والتنمية"، وخاصة أن غالبية قضاة الدستورية الأحد عشر، عينهم الرئيس العلماني المنتهية ‏ولايته، أحمد نجدت سيزر. وإذا أيدت المحكمة الدستورية طلب المعارضة فسيتعين على رئيس الحكومة، رجب طيب أردوغان، الدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة، أما إذا أيدت الحكومة فمن المتوقع أن يفوز جول في الجولة الثالثة 9/5/2007م، والتي سيحتاج فيها إلى تأييد أغلبية بسيطة قدرها 276 صوتاً.

الجميع إذاً بات يترقب قرار المحكمة لكن المؤسسة العسكرية أبت إلا أن تتدخل ــ هي الأخرى ــ على الخط ، وأصدرت هيئة الأركان بياناً على موقعها الإلكتروني، بعد ساعات من جولة التصويت في البرلمان، قالت فيه : إن "القوات المسلحة تتابع هذا الوضع بقلق، ويجب عدم نسيان أن ‏القوات المسلحة هي طرف في هذه المناظرة، وأنها ‏مدافع شرس عن العلمانية"، "وستبرز موقفها وتصرفها في حالة الضرورة.. لا يجب أن يشك ‏أحد في هذا".

ويعد تدخل العسكر في نظر المحللين بمثابة تحذير جدي للحكومة، ويرى فيه مراقبون محاولة من الجيش للضغط على المحكمة الدستورية، لإلغاء التصويت وحل البرلمان التركي، بما يحول دون فوز جول بكرسي الرئاسة. وقال فاروق بلديريجي، كاتب ‏الافتتاحية في صحيفة "حرييت" واسعة الانتشار : "إنه تحذير ‏والمعنى الوحيد الممكن أن يحمله هو أنهم (العسكر) لا يريدون جول رئيساً". ‏

وقبل عشر سنوات أطاح الجيش التركي بحكومة الزعيم الإسلامي، نجم الدين أربكان، التي كان ‏جول عضواً ‏فيها. ولكن لا يتوقع كثيرون قيام الجيش بالانقلاب الآن في تركيا، حيث ينمو ‏الاقتصاد بقوة، كما تحظى حكومة أردوغان بشعبية جارفة، فضلاً عن التطورات الخارجية التي جعلت من الانقلابات العسكرية أمراً منبوذاَ ومرفوضاً دولياً.‏ ومن أهم العوامل المؤثرة التي قد تمنع الجيش التركي من التدخل في هذا الجدل السياسي الحالي، ربما رغبة ‏الأتراك ــ إسلاميين وعلمانيين ــ في دخول بلادهم الاتحاد الأوروبي؛ حيث إن تدخل الجيش في الحياة ‏السياسية سيزيد حتماً من التشدد الأوروبي، ضد أنقرة في مفاوضات الانضمام. إذ تعد السيطرة المدنية الكاملة على شئون الدولة ومنها القوات المسلحة، من أهم معايير شروط ‏العضوية في الاتحاد ‏الأوروبي

وقد حذر الاتحاد الأوروبي ــ من جهته ــ على لسان مفوض شؤون توسيع الاتحاد "اولي رين" ‏الجيش التركي، وطالبه بالبقاء بعيداً عن السياسة. وقال رين للصحفيين : "من المهم أن يترك ‏الجيش مسألة الديمقراطية للحكومة المنتخبة ديمقراطياً، وهذا اختبار (سيظهر) إن كانت القوات ‏المسلحة التركية تحترم العلمانية الديمقراطية للعلاقات المدنية العسكرية". وأضاف : انه يدرس ‏البيان الذي أصدره قادة الجيش بدقة، مشدداً على أن احترام الديمقراطية شرط أساس لترشيح ‏تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. معتبراً في الوقت نفسه أن "التوقيت مفاجيء وغريب.. ومن ‏المهم أن يحترم الجيش قواعد اللعبة الديمقراطية ودوره فيها".‏

وبالرغم من ذلك، رأى محللون أن الاتحاد الأوروبي ربما فقد تأثيره على مجريات الأحداث ‏التركية بعد الشكوك التي تنتاب الرأي العام التركي، وسط الخلافات بشأن قبرص وقضايا أخرى، ‏شعر معها الكثير من الأتراك بأن الاتحاد الأوروبي لا يريد قبول بلادهم عضواً فيه.‏

وعلى غير المتوقع، ردت حكومة "العدالة والتنمية" بشدة على بيان المؤسسة العسكرية، وقال وزير العدل، جميل جيجيك، في مؤتمر صحفي : "إن بيان الجيش موجه ضد الحكومة وهو يستهدف التأثير على المحكمة الدستورية"، مضيفاً أن "رئيس هيئة الأركان العامة مسئول أمام رئيس الوزراء"، و"لا يتصور في دولة ‏قانون ديمقراطية أن تصدر مثل هذه التصريحات عن ‏هيئة خاضعة لأمرة رئيس الوزراء". "يتعين أن يبقى الجيش تحت سيطرة مدنية صارمة". وفي لفتة تصالحية، قال جيجيك : إن الحكومة لن تسمح لخصومها بإثارة التوترات بينها وبين الجيش، كما شدد على التزام الحكومة بالقيم العلمانية.

بالمقابل أصدرت منظمة حقوقية وعدد من الأحزاب بيانات، تندد بالتهديد الصادر عن قيادة أركان ‏‏الجيش، ‏وقال أركان مومجو، القيادي في "حزب الوطن الأم" يمين وسط : "يتعين أن نتجنب ‏الاستقطاب"، مضيفاً : "الديمقراطية التركية أصيبت بجروح"، كما قالت "رابطة حقوق الإنسان، ‏ومقرها في أنقرة : إن البيان الحق الضرر بالديمقراطية.‏

ومن جانبها، دعت الولايات المتحدة إلى احترام الدستور الديمقراطي في تركيا، وقال دان فرايد ــ ‏مساعد وزيرة ‏الخارجية الأمريكية ــ "نأمل ونتوقع أن يعمل الأتراك على حل هذه المسائل ‏السياسية بطريقتهم، بشكل يتناسب ‏مع ديمقراطيتهم العلمانية وبنود الدستور". وعند سؤاله ‏حول ما إذا كان سينتقد بيان القوات المسلحة التركية ، قال ‏فرايد : "نحن لا نتحيز لأي جانب". ‏وأجاب على ما إذا كان بيان الجيش ملائما "لا يمكنني التفكير في أي طريقة ‏أجيب بها على هذا ‏السؤال بصراحة وتكون ذات فائدة".‏

كما قال كارل دكوورث ــ المتحدث باسم وزارة الخارجية ــ في واشنطن : إن "الولايات المتحدة ‏تدعم بشكل كامل العملية الدستورية للديمقراطية العلمانية في تركيا.. سيتعين أن تتخذ المحكمة ‏الدستورية قراراً بشأن أي مسائل تتعلق بالانتخابات الرئاسية التركية".

وفي هذا السياق، فإن كل شيء يبدو على السطح ينبأ بأن تركيا ــ (نخباً وأحزاباً وعسكر) في ظل الثورة الهادئة حتى الآن أو الغليان غير المرئي؟ ــ مقبلة على الأزمة التي نشبت بالفعل بين الإسلاميين في الحكومة والمؤسسات العلمانية (الجيش، ‏والقضاء، والأحزاب)‏ وفي ظل المواقف المتباينة، وتعدد الأطراف فيها، تبقى الساحة السياسية التركية مفتوحة على كل الخيارات.

وقد بدأ عهد تركيا مع العلمانية، أي فصل الدين عن جميع شئون الحياة، عام 1923 عندما ‏أسس "أتاتورك" الدولة الحديثة ‏بعد إلغائه دولة "الخلافة الإسلامية" فاصلا بين مؤسسات ‏الدولة والدين الإسلامي (المذهب السني الحنفي) الذي كان الدين ‏الرسمي الوحيد للدولة. وكان لا ‏بد لأتاتورك بعد هذه النقلة من تغطيتها سياسياً وآيديولوجياً، فكان البديل إحياء القومية التركية، ‏برغم ما كان من الطبيعي أن يؤدي إليه ذلك من انتهاك لحقوق الأقليات العرقية ‏كالأكراد والأرمن ‏والسريان.‏