في المؤتمر الدولي للعراق في «شرم الشيخ» ربما تكون واشنطن أفادت منه بما يفوق ما أفادت منه العراق حينما حولت نتائجه للتعامل مع المسائل الفرعية كحل «الميليشيات الطائفية» العراقية وليس مع انسحاب «ميليشيات المرتزقة» وجيوش الاحتلال «الانجلو أميركية» وهى القضية الأساسية والتي يطالب بها الشعب العربي والأميركي، مما قد توظفه الإدارة الأميركية لمحاولة إقناع الشعب الأميركي بأنه يعنى إقرارا ضمنيا من المؤتمر بما فيها دول الجوار العراقي باستمرار الاحتلال بغير تحديد، والذي تريده واشنطن رغم العراك السياسي فيها مع مجلس النواب، استمرارا بغير حدود، بعد أن أقر المؤتمر الحل السياسي بعد الفشل العسكري طريقا أساسيا للخروج من الورطة العراقية.

مؤخرا قام نائب الرئيس الأميركي «ديك شيني» بزيارة قوات الاحتلال الأميركية في بغداد ومعرفة مدى فاعلية خطة بوش الأمنية في العراق، قبل أن يبدأ جولته على الدول العربية الأربع السعودية والإمارات ومصر والأردن بتكليف من الرئيس الأميركي لمناقشة «مسائل محددة» مما يشير إلى محاولة الإدارة الأميركية المأزومة سياسيا في واشنطن والمأزومة عسكريا في بغداد «لتوظيف الوسائل بعيدا عنها لتحقيق أهدافها»، بالسعي لترتيب تنسيق سياسي وعسكري حول العراق وقريبا من إيران يساعد الاستراتيجية المأزومة على تجاوز ورطتها في العراق كشرط للتأهب لاحتمالات مواجهة تدفعها إليها إسرائيل واللوبي الصهيوني مع إيران، لن تكون سوى مقامرة خاسرة إذا حدثت، ولن تكون أوفر حظا من مواجهة فاشلة في العراق ولبنان وأفغانستان.

وفى تبريره لشن الحرب على العراق التي دفعها إليها لوبي السلاح ولوبي النفط واللوبي الصهيوني حاولت الإدارة الأميركية بالأكاذيب وبالتضليل «توظيف» مجلس الأمن لإصدار قرار يجيز لها استخدام القوة العسكرية بغطاء دولي، لكن المجلس لم يستجب، وبدلا من أن تراجع تلك الإدارة اندفاعها العسكري تورطت في المستنقع الدامي بغطاء ممزق من تحالف توابعها التقليديين ظنا منها وفقا لنبوءة عرافيها العملاء أن الشعب العراقي سيستقبلها بالورود، فإذا هي بعد ذهاب السكرة ومواجهة الحقيقة بغير قدرة لا على البقاء ولا على الانسحاب!

وفى تبريره لاستمرار الحرب الدموية الخاسرة بلا أمل، ولاستمرار الاحتلال المرفوض بلا نتيجة، حاول الرئيس الأميركي«توظيف» حالة الخوف الشعبي الأميركي من الإرهاب بعد11 سبتمبر، فذكر للشعب الأميركي أن الجيش الأميركي بغزوه للعراق قد نقل ساحة المعركة مع الإرهاب من واشنطن إلى بغداد، وأن بقاءه ضروري ليحارب الإرهابيين في العراق حتى لا يجد نفسه مضطرا لمحاربتهم في أميركا، ولنزع أسلحة الدمار الشامل من أيديهم حتى تكون أميركا أكثر أمنا والعالم أكثر أمانا.

وبعدما ثبت للشعب الأميركي أن هذه الحرب قامت على الأكاذيب، كذب ادعاءات الصلة بين العراق وبين الإرهاب قبل الغزو، ومن قبلها انكشاف كذب حكاية أسلحة الدمار الشامل، وبعد ثبوت الفشل العسكري سحبت غالبية الشعب الأميركي ثقتها من الإدارة الجمهورية الكاذبة ومنحتها للغالبية الديمقراطية التي «وظفت» كذب الإدارة، وسوء الإدارة في الحرب بالسيطرة على البرلمان بمجلسيه لتنتقل ساحة المعركة العسكرية من بغداد بين الأميركيين والعراقيين إلى واشنطن في معركة سياسية بين الأميركيين والأميركيين!

لتبدأ حرب أميركية جديدة حول العراق من سياسية وإعلامية وصفت بأنها حرب تكسير العظام بين البيت الأبيض الذي تلطخت جدرانه بدماء العراقيين والأميركيين، وبين مجلسي النواب والشيوخ الذي حاول بقراريه للربط بين الانسحاب وبين التمويل منع مزيد من الخسائر البشرية والمادية والسياسية الأميركية وإنقاذ أميركا من جموح الإدارة الأميركية بحلول سياسية لا عسكرية وبحوار سياسي مع دول الجوار العراقي وفى مقدمتهم سوريا وإيران، وبانسحاب سريع من المستنقع قبل الغرق .

إلا أن الرئيس بوش الذي بات محاصرا وبدفع من نائبه الحربي «ديك شيني» يواصل العناد القائم على نبوءة أصولية مسيحية صهيونية واهمة بتحقيق نصر، ويستخدم الفيتو في مواجهة القرار الشعبي، وإن كان له الحق دستوريا في ذلك إلا أنه أساء استخدام هذا الحق لأنه يتجاهل الواجب السياسي والديمقراطي حينما تكون إرادة فرد حاكم واحد في الاتجاه المعاكس للسلطة التشريعية الممثلة لإرادة غالبية شعبه خصوصا في بلد ديمقراطي يدعى أنه يحارب الآخرين لنشر الديمقراطية!

قد لا يكون الرئيس ولا نائبه زعيم المحافظين الجدد هم المتضررون باعتبارهم يمثلون أصحاب المصالح في الحرب، ولا يهم بعدهم أن تتضرر أو تخسر أميركا سمعتها وهيبتها ومصداقيتها السياسية والعسكرية والأخطر منها الأخلاقية، ولا يهم أن تسود معادلة الدم مقابل النفط، حينما يكون الأهم حماية إسرائيل والسيطرة على النفط ومصالح تجار الحروب في حرب ليس الهدف منها تحرير العراق كما يزعمون وإنما تحرير السوق لصالح أباطرة البيزنس الحربي في عصر السوق.

فى هذه الحرب العسكرية في بغداد، والحرب السياسية في واشنطن كشفت وقائع عديدة أن الحرب على العراق تحولت إلى بيزنس لتجار الحروب تغطيه ميزانيات ضخمة يوافق عليها الكونجرس على مضض ويمولها المواطن دافع الضرائب الأميركي الذي إن لم يخسر أبناؤه يخسر أمواله في حرب خاسرة بالنسبة له ومربحة لرجال البيزنس الحربي والأمني من تجار السلاح ومقاولو المرتزقة.

وربما استوقف محمد حسنين الكثيرين ممن تابعوا الأحاديث الكاشفة للكاتب الصحافي الكبير الأستاذ هيكل على قناة «الجزيرة» قوله: «نحن هنا لأول مرة أمام إمبراطورية تحارب بجيش مرتزقة، في العراق الجيش الأميركي الذي يحارب، وهذا لأول مرة في التاريخ الأميركي كله، لو نظرت في قوائم الأسماء للقتلى الأميركان تجد معظمهم إما متطوعين من أميركا اللاتينية أو من أفريقيا.. نتكلم على إمبراطورية في منطقها وفي عقلها توظيف الوسائل بعيدا عنها لتحقيق أهدافها.

وليس الأستاذ هيكل وحده الذي تحدث عن بيزنس الحرب على العراق وفصل فيه بعد ذلك في أحاديث تالية، بل كشف الكثيرون من الكتاب والمسؤولين الأميركان والروس والعرب الكثير من الحقائق التي تخصم من هذه الحرب غير المشروعة أى مضمون أخلاقي، إذ يأتي هذا الحديث عن المرتزقة في العراق في الوقت الذي بدأ فيه الكونغرس الأميركي مناقشة هذه القضية بجدية في محاولة لوضع حد لها قبل انتشار فضائحها، خاصة بعد ظهور العديد من المقالات والتقارير في الصحف الأميركية التي تناولت هذه القضية واعتبرتها فضيحة سياسية كبيرة للولايات المتحدة تهبط بسمعتها للحضيض لمخالفتها للقوانين الدولية والأميركية ولاتفاقيات جنيف الخاصة بتحريم التعامل مع المرتزقة دوليا باعتبارهم عصابات إجرامية تمارس الجريمة من أجل المال.

ونشرت صحيفة «شيكاغو صن تايمز» بتاريخ السابع من فبراير الماضي مقالا للزعيم الزنجي القس«جيسي جاكسون» تحت عنوان «خصخصة الحرب» فجر أزمة في الكونغرس الأميركي حول هذه القضية لاحتوائه على معلومات خطيرة تشكل فضيحة لإدارة الرئيس بوش، ويقول جاكسون في مقاله «إن الإدارة الأميركية تعاقدت بعقود سرية خاصة مع بعض الشركات التي تعمل في مجال الحماية الأمنية مثل شركة «دانيكور» التي كانت متورطة في فضائح حرب الصرب والبوسنة عام 1998، وأن هذه الشركات قامت بجلب الآلاف من المرتزقة من داخل أميركا وخارجها من مختلف أنحاء العالم من عصابات الجريمة والمافيا العالمية.

والمعروف أن هؤلاء المرتزقة لا يخضعون للقانون الأميركي ولا للقيادة العسكرية الأميركية في العراق، وسلطاتهم وأنشطتهم بلا حدود ولا قيود، والعقود معهم لا تخضع لقانون حرية المعلومات الأميركي ولا للكونغرس، وأن حجم نشاطهم حتى عام 2006 تجاوزت نفقاته أربعمئة مليار دولار ذهب جزء كبير منها كعمولات لجهات أميركية سهلت جلبهم وتدريبهم وترحيلهم للعراق، وقال جاكسون أن هؤلاء المرتزقة هم الذين نفذوا عمليات التعذيب في سجن أبو غريب ولم يخضع أي منهم للتحقيق في هذه العمليات بينما خضع الجنود الأميركيون النظاميون للتحقيق وقال قائد عسكري روسي إن هؤلاء المرتزقة هم الذين اختطفوا الدبلوماسيين الروس الأربعة داخل المنطقة الخضراء وقتلوهم، وهم من دبر إشعال الفتنة الطائفية وعمليات الاختطاف للدبلوماسيين والصحفيين للابتزاز، والتفجيرات ضد المدنيين لتشويه المقاومة ضد الاحتلال.

صحيفة «واشنطن بوست» كتبت في الخامس من ديسمبر الماضي تقول «البنتاجون الأميركي هو أشهر زبائن شركات جلب المرتزقة، ومن أشهرها شركة داين كورب الأميركية التي تولت جلب ونقل المرتزقة إلى منطقة البلقان ليقوموا بعمليات إبادة وذبح في البوسنة وكوسوفو نسبت معظمها للصرب، وكانت النتيجة تقسيم البلقان ويوغوسلافيا لجمهوريات صغيرة، وهو نفس ما يجرى الآن في العراق لتقسيمه إلى ثلاثة أقسام أكراد وسنة وشيعة».

اللجوء للمرتزقة يحقق للبنتاجون أفضل وسيلة للهروب من كافة القوانين، لأنهم يقومون بعمليات قذرة يرفض العسكريون النظاميون القيام بها لتعارضها مع القيم الإنسانية وشرف الخدمة العسكرية، وأيضا التعاقدات السرية معهم تتيح الفرصة للجهات التي تجلبهم في الحصول على مبالغ من المال خيالية لا تخضع للمراقبة والتحقيق، كما أن موت أو فقدان المرتزقة في الميدان لا يعلن في الخسائر الأميركية، ولا يشكل مشاكل اجتماعية ولا تذمر في المجتمع لأنهم بلا هوية ولا أقارب ولا أحد يهتم بهم أو يسأل عنهم، كما أنهم لا يكشفون أسرار العمليات القذرة التي يقومون بتنفيذها وإذا كشفوها فلا أحد يصدقهم لأنهم مجرمون وسيئو السمعة، والخطورة الكبرى أن استخدام المرتزقة أصبح شائعا في النزاعات والحروب الإمبراطورية تستخدمه بعض الدول لتهديد وابتزاز دول أخرى لإخضاعها لطلباتها مثل ما حدث في البلقان وما يحدث الآن في العراق وأفغانستان.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)