كانت أعوام سريعة رغم قسوة ملامحها، وهي مثيرة للجدل ليس بأحداثها فقط إنما بالصورة التي تركتها معلقة في ذاكرتنا بحيث يصعب إيجاد فصل واضح فيها، وإذا كان زمن قراءة الحدث تحتاج إلى أكثر من سبع سنوات، لكننا في نفس الوقت نستطيع تلمس ملامح المساحة التي تركتها داخل مجتمعنا بالدرجة الأولى.

وإذا كان تاريخ هذه المرحلة يبدء بخطاب القسم للرئيس بشار الأسد فإن الزمن ما بين بداية الألفين وتولي الرئيس مهامه الدستورية لم تكن فارغة، لأنها شهدت مؤشرات على ان المسائل العامة في سورية دخلت مرحلة حساسة، حملت معها احساسا عميقا بالدخول إلى الزمن الجديد. فالمشكلة التي تظهر في قراءة دخولنا إلى هذه المرحلة أننا لا نملك فواصل واضحة يمكن القياس عليها، وعند اختيار أي تاريخ إجرائي للبحث فإن الكثير من التأويلات تظهر وتضعنا في نقطة من الصعب الفصل فيها بين الماضي والحاضر. فالدخول إلى السنوات السبع التي مضت هو محاولة لتحديد مرحلة، مع التأكيد ان الحيادية في هذا الموضوع صعبة. فالأحداث أثرت حتى في البنية الاجتماعية، وفي طبيعة التفكير السياسي.

فالشان الداخلي السوري دخل في مساحة حامية هي في النهاية تجربة للجميع، وفي نفس الوقت عبرت عن الطاقة السياسية وقدرة النخب من مختلف الأطياف على التعامل مع تبدل الظرف الذاتي لسورية، وربما كان ظهور المنتديات رغم قصر مدتها، أكثر التعابير التي شكلت مع مرور السنوات ظاهرة جديدة في الحياة السورية. حيث تجلت في الخطاب السياسي لجميع الأطراف، ونقلت رغبة في التعامل مع مرحلة جديدة بالكامل، هذه الرغبة كانت واضحة في مساحات الرأي التي يطلق عليها البعض لكنها في النهاية ظاهرة تكرست داخل المجتمع، فهي "ظاهرة" انتشرت نتائجها بشكل واضح في عمليات التقييم المستمر، لكنها في نفس الوقت عجزت عن تشكيل تيار واضح الملامح على مستوى "المجتمع السياسي" عموما.

وما يمكن قراءته في هذه الظاهرة متعدد الجوانب، فالحديث عن عدم حدوث تغير سياسي في سورية يجب أن لا يبقى مجرد حالة تقريرية، لأنه يحتاج إلى إعادة نظر في تطور الظاهرة التي رافقت دخول سورية للقرن الجديد، وحجم التأثيرات المتبادلة ما بين إجراءات الدولة والمجتمع عموما. والملاحظ هنا:
أولا – أن محاولات تحقيق "كسب سياسي" كانت أكبر من أي عمل لتحقيق رؤية لما هو قادم، وهذا الموضوع لا يتعلق بطرف واحد فقط. فما يطلق عليه "ربيع دمشق" انطلق عمليا قبل عام ألفين عبر "منتديات اقتصادية"... لكنه وبعض أقل من ستة أشهر بدأ ينتشر ويبلور فكرة لأحزاب سياسية رغم أن العنوان العريض له كان "المجتمع المدني".
ثانيا – الخطاب الأساسي في البداية كان يستند إلى "خطاب القسم" الذي اعتمد كوثيقة على الأقل في معظم الآراء التي انطلقت منذ تموز 2000، ورغم حداثة المرحلة السياسية الجديدة لكن هذه الوثيقة دفعت الحياة السياسية بشكل عام نحو محاولة إعادة تشكيل نفسها من جديد. وحتى نستطيع فهم هذه الظاهرة فإن إغلاق المنتديات لم يمنع حتى اليوم من أن تظهر معارضة تعلن عن نفسها حتى ولو لم تمتلك تيارا واسعا أو هامشا عريضا للتحرك.

ثالثا – الخلل الذي ظهر في عام 2001 لم يكن في إنهاء "ريبع دمشق" بل في طبيعة إخفاق هذه التجربة عند جميع الأطراف. فلم يكن مقنعا الحديث عن "إعادة إنتاج السلطة لنفسها" طالما ان وجوه المعارضة هي "إعادة إنتاج" أيضا، فأهم وجهين من "المعارضة" يتم تداولهما اليوم في وسائل الإعلام الغربية على الأقل كانوا جزءا من التكوين السياسي قبل عام 2000.

وتبدو اهمية هذا الحراك أن نتائجه لم تنعكس داخليا، فالمسائل الداخلية في سورية منذ منتصف عام 2001 لم تعد مستقلة بشكل مطلق، والتركيز الإعلامي باتجاه الداخل السوري كان قويا، واتضح بشكل أكبر بعد احتلال العراق، وعندما يعتبر البعض أن احداث 11 أيلول سرعت من وتيرة الضغط على سورية، فإن الجانب الآخر من الموضوع يكمن في التكوين الذي بدأ يتشكل نتيجة "المرحلة الجديدة" التي دخلت فيها سورية والمنطقة عموما.

عمليا إن "عوامل جديدة" بدأت تحكم "المعادلة السورية"، ورغم أن اتجاه الدولة انسحب باتجاه "أولوية الإصلاح الاقتصادي"، بينما كانت أطراف المعارضة تتحدث عن "الأولوية السياسية"، فإن العاملين كانا مترابطين لأبعد الحدود، فالواقع الاقتصادي الجديد أثر على الحركة العامة بما فيها السياسية، في وقت كان الحدث الخارجي يقدم ظروفا موضوعية لتطورات كثيرة، فالمنطقة شهدت لأول مرة تبدلات على مستوى "المصلحة الأمريكية" التي لم تعد تؤمن بـ"تقاسم الأدوار القديم". وعملت على البدء بمسارات جديدة لإزاحة الخارطة السياسية القديمة كليا. ورغم ان هذه الاستراتيجية لم تنجز حتى اليوم لكنها أحدثت آثارا عميقة داخل المنطقة.

كانت سورية أكثر المتضررين بالزلزال العراقي إن صح التعبير، لكن "إنجاز" إسقاط نظام سياسي فتح المجال أمام التفكير بهذه المنهجية التي سلكتها الولايات المتحدة، ورغم ان الدخول بمغامرة عسكرية جديدة كان مستبعدا، لكن الاستراتيجية الأمريكية كانت تقدم هذه الحالة "الانقلابية" وفق أشكالا مختلفة. وحتى يتضح الارتباط ما بين "التحول الدولي" و "الداخل السوري" لا بد من ملاحظة نقطتين:
 الأولى أن العوامل الجديدة التي أدخلتها الدولة بعد عام ألفين كانت وسيلة ضغط أيضا من قبل السياسة الدولية عموما، سواء عبر "مكافحة تبييض الأموال" أو حتى بتوقيف اتفاقية الشراكة مع أوروبا. فأولويات الإصلاح الاقتصادي لم تكن مجال انتقاد من قبل البعض في الداخل، بل أصبحت أيضا نقطة ارتكاز لإعاقة أي حوافز او مساعدات ممكنة.
 الثاني هو ما انتجه "الزلزال العراقي" من رؤية "مشوشة" حول العمل الديمقراطي عموما، لأن المعارضة سرعان ما انتشرت في الخارج، ثم حدثت جملة من التبدلات اللاحقة دفعت إلى تدعيم هذه المعارضة بوجوه تقليدية. هذا الأمر كان محرجا بالنسبة لأي "معارضة" داخلية، لأن المعركة بدت بعد احتلال العراق حدية وفاصلة ولا تحتمل أي حياد.

ووسط ما هو داخلي أو خارجي كان الجدل يسير بشكل أفقي، وكان الإعلام سيدا على مساحة التفكير، فهو لم يبتدع "قضايا" لكنه وضعها في إطار خاص، وربما منعنا من الحرية التي نريدها كي نفكك المسائل التي داهمتنا منذ بداية القرن.

بعد سبع سنوات هناك بانوراما يفرضها الحدث احيانا أو الرغبة في المراجعة، ومن الصعب الوصول إلى صور نهائية.. فلا صور نهائية عندما نريد البحث والعمل او النظر للمستقبل.. ولا مجال لـ"حصاد" لأن هذه الوظيفة توحي بالتوقف، ورغبتنا هي عدم التوقف.. رغبتنا الاستمرار للجميع.. للمجتمع الذي نراه داخل الحداثة مهما حاصرته مظاهر التراث.

عندما نبدأ بالتفكير بتفاصيل السنوات التي مضت ربما نلحظ طبيعة التحول في الرؤية على الأقل، لأن ما حدث كان شكلا يحاول حصار ذاتنا، وفي المقابل كنا نفكر بطبيعة الانطلاق.. فالمسألة ليست فقط منتديات ظهرت أو أغلقت، وبيانات انتشرت على الإنترنيت أو ظهرت في الصحف اللبنانية بالتحديد، ولا حتى خروج القوات السورية من لبنان أو احتلال العراق أو تأسيس إعلان دمشق، فهذه الأمور هي حركة عامة، لكن التناول العام للشأن السوري ربما تبدل.

والمسألة ليست تخمينا لأننا نستطيع اليوم أن نرسم ملامح التفكير الذي نتج عن جملة الأحداث، وهو شأن ليس سياسيا، لأن يشكل المساحة التي يمكن أن يظهر عليها أي حراك عام. ما حدث هو ملامح مرحلة علينا التعامل معها بشكل جديد.. ربما بمسؤولية اجتماعية قبل أن نحاول رسم ما يمكن أن يحدث مستقبلا.