«تم بحمد الله تشكيل مجموعة الجيش الإسلامي التابع لتنظيم القاعدة في أرض الرباط ضد الاحتلال الغاصب وعبّاد الصليب، تلبية لله ولكلام الشيخ المجاهد أسامة بن لادن والشيخ أيمن الظواهري والشيخ المجاهد أبي مصعب الزرقاوي، سنستهدف كل عدو للإسلام والمسلمين وسنضرب بيد من حديد كل الحملات الصليبية الأميركية والصهيونية ونفجّر بأجسادنا كل مواقعهم ونزلزل الأرض من تحت أقدامهم وسنعرض على شاشات التلفاز صوراً لمجموعاتنا المقاتلة حتى يعرف أعداؤنا أننا لا نتهاون وأننا جدّيون بأفعالنا».
هكذا تم الإعلان الرسمي بوصول القاعدة إلى فلسطين، وتحديداً إلى قطاع غزة، عبر تأسيس مجموعة عسكرية تابعة مباشرة للقاعدة تأتمر بأمرها، في بيان التأسيس الذي صدر في الثامن من أيار 2006، ولم يتم التعاطي معه بجدية واهتمام. ومنذ عام ونصف عام، سادت في فلسطين، وتحديداً في غزة، أجواء قاعدية بامتياز إلى أن أُعلن الشهر الماضي جيش الإسلام أو كتائب التوحيد والجهاد ذراعاً للقاعدة عبر تبنّي خطف الصحافي البريطاني آلان جونستون ووضع لائحة طويلة عريضة من المطالب والشروط لإطلاقه تتضمن إطلاق سراح أبي قتادة الفلسطيني ــ أحد منظّري القاعدة ــ المعتقل في لندن، وكذلك إطلاق سراح المواطنة العراقية ساجدة الرشادي المتهمة بمحاولة تنفيذ عملية انتحارية في أحد فنادق عمان، وتتضمن القائمة المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في سجون الاحتلال الأميركي والبريطاني في العراق وغوانتانامو من دون أي تطرق أو إشارة إلى القضايا والملفات الوطنية المتعلقة بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
يجب أن لا نستغرب وصول القاعدة إلى فلسطين حيث إن الأمر كان مسألة وقت فقط أو ربما حدث أخيراً بعض الشيء وفق أحد الاجتهادات ووجهات النظر. ومنطقياً ومنهجياً وفي السياق العام فإن وجود أو وصول القاعدة إلى أي بقعة من العالمين العربي والإسلامي يبدو أمراً حتمياً في ظل الواقع الرديء والمهترئ والمتضمن تسلطاً واستبداداً سياسياً وأزمة اقتصادية واجتماعية وتبعية للخارج، وخاصة للولايات المتحدة، وعجزاً عن الوقوف في وجهها لا بل التساوق مع الخطوط والمشاريع التي أراد مجانين الإدارة الأميركية تسويقها بل فرضها بالقوة على المنطقة، وقبل كل ذلك، حرباً لا تلين على التيار الإسلامي المعتدل ودفعه إلى الزاوية ومنعه من ممارسة أدنى حقوقه السياسية والدستورية، وباختصار من حاصر وعزل وأضعف الإخوان المسلمين بصفتهم التيار الأبرز في الشارعين العربي والإسلامي حصل في النهاية على القاعدة، وفي أسوأ الأحوال وفي أحسنها على شعب محبط يائس لا يجد غير العنف وسيلة لتفجير الغضب واليأس والإحباط والقنوط.
هذا في الشأن العربي الإسلامي العام، أما الأمر في فلسطين فيبدو مختلفاً بعض الشيء في ظل انخراط فئات المجتمع المختلفة وطبقاته في الصراع مع إسرائيل وفي المقاومة بأشكالها المختلفة تحت راية أو لافتة المشروع الوطني الفلسطيني الذي يتحدث في حده الأدنى عن إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس في الأراضي المحتلة عام 1967، وعن حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
نظرياً يمكن القول إن الأجواء القاعدية بدأت في التشكّل خلال العامين السابقين فقط، وهي، أي الأجواء، تناسبت عكسياً مع مناعة المشروع الوطني الفلسطيني والوحدة الوطنية الفلسطينية وقوتهما ومتانتهما وصلابتهما، ولذلك لم يكن صدفة أبداً الإعلان بوجود القاعدة كأمر واقع وتنظيم على الأرض في ذروة الاقتتال الداخلي الفلسطيني الذي أضعف المشروع الوطني، وللأسف الشديد قد يكون قتله من الناحية السريرية، والأمر منوط فقط بالإعلان الرسمي بوفاة المشروع الذي سيترافق حتماً مع تحول القاعدة إلى التنظيم الأكبر في قطاع غزة.
بتفصيل أكثر وبتحديد أدق للأسباب التي أدت إلى تشكل الأجواء القاعدية في غزة وصولاً إلى الإعلان الرسمي بوجود التنظيم هناك، يمكن الإشارة إلى الهدنة أو التهدئة التي أعلنتها فصائل المقاومة مع جيش الاحتلال الاسرائيلي بداية عام 2005 واستمرت صامدة حتى نهاية العام نفسه، على رغم الخروق الاسرائيلية والردود عليها، وخاصة من طرف الجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى، وعلى رغم أن حركة المقاومة الإسلامية حماس لم تعلن إنهاء الهدنة إلا منتصف عام 2006 عندما نفذت عملية أسر الجندي جلعاد شاليت بالتعاون مع جيش الإسلام، ثم سرعان ما عادت إلى التهدئة في تشرين الثاني من العام عينه قبل أن تعلن انهيارها إبان الأسبوع الماضي مع استعداد للعودة إليها من جديد شرط أن تكون شاملة وضمن سلة متكاملة سياسية وأمنية.
عندما حدثت التهدئة لم ينظر إليها قادة الأجنحة العسكرية للفصائل وكوادرها بارتياح، وفي ظل استمرار الجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى في الرد على الخروق الاسرائيلية، ظهرت المشاكل داخل الجهاز العسكري لحماس على رغم انضباط الجهاز وخضوعه التام للجناح السياسي، وازداد الأمر سوءاً بعد الانتخابات التشريعية التي أدت إلى وصول حماس للسلطة وتشكيل حكومتها الأولى، الأمر الذي كبّل عملياً أيدي الجناح العسكري للحركة وأُجبرت أطراف أو عناصر غير منضبطة فيه إلى التعاون مع عناصر مستقلة للقيام بفعاليات وأنشطة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، غير أن القتال الدامي بين فتح وحماس وحاجة العناصر المستقلة إلى خطاب إسلامي جهادي وخلفية فكرية وإيديولوجية لخطابها، دفع هذه العناصر في مرحلة أولى في اتجاه القاعدة عبر خطابها قبل أن تتطور طرق التواصل وآلية العلاقات لتصل إلى درجة الإعلان الرسمي بذراع أو جسم تنظيمي للقاعدة في فلسطين.
إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى الحصار القاسي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني وما زال منذ وصول حركة حماس إلى السلطة غداة الانتخابات التشريعية التي أُجريت مطلع عام 2006، الحصار الذي كان محصلة للاصطفاف الدولي خلف المواقف الأميركية والإسرائيلية من حماس وحكومتها ومنهجها، ما أدى إلى تزايد حدة النقاش في وجود حماس في السلطة وتطرف الأفكار المطروحة إلى درجة التفكير في حلّ السلطة وهدم المعبد على رؤوس الجميع، وهذا التطرف بالتأكيد أوصل البعض إلى الاقتناع بأن القاعدة ومنهجها وخطها هي السبيل الأمثل للرد على جريمة تجويع الشعب الفلسطيني وإذلاله لمعاقبته على خياره الديموقراطي وتصويته لمصلحة حماس وخيار المقاومة في الانتخابات التشريعية.
كذلك لا يمكن تجاهل حقيقة أن الظهور الرسمي للقاعدة في فلسطين هو محصلة طبيعية لغياب الخيار أو الطريق الثالث أو البديل لثنائية حماس ــ فتح والاستقطاب الحاد بينهما الذي وصل إلى الاقتتال الداخلي حتى درجة أو وتيرة منخفضة من الحرب الأهلية.
وبالتأكيد فإن الخيار أو الطريق الثالث الذي يحتمي بالمشروع الوطني وخطوطه العريضة ويُقنع الشارع الفلسطيني بصدقيته وجدّيته وجدواه قادر على ملء الفراغ الذي تجتهد القاعدة الآن لاحتلاله.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الفوضى وحالة الفلتان الأمني الواسعة في الشارع كبيئة مناسبة للقاعدة للانطلاق والعمل وتعزيز أوضاعها التنظيمية والميدانية، وليس أدل على ذلك من عدم وصول القاعدة حتى الآن إلى الضفة الغربية، حيث إن الأسباب التي حالت دون انتقال الفوضى والفلتان والاقتتال إلى الضفة الغربية هي نفسها التي تحول دون انتقال القاعدة إلى هناك ويأتي على رأسها وجود الاحتلال الاسرائيلي في الضفة بشكل مباشر، ناهيك بغياب العسكرة عن المجتمع الفلسطيني في الضفة، والأمر نفسه انعكاس أو ترجمة لوجود منظمات مجتمع مدني قوية ومتماسكة في الضفة ما زالت تضع على رأس أولوياتها مقاومة دائمة وإبداعية للاحتلال، وأحد أبرز تجلّياتها التظاهرة الأسبوعية في قرية بلعين ضد الجدار الفاصل التي تحولت إلى عنوان لمقاومة الشعب الفلسطيني وصموده في الضفة الغربية.
أخيراً يمكن الإجمال بأن الأجواء التي أدت إلى الظاهرة القاعدية نفسها في العالم العربي تكاد تتكرر أو تُستنبط في فلسطين بسبب تراكم الفساد والاستبداد والجمود الفكري والسياسي مع حصار وعزل وحتى خنق حماس وحكومتها حتى لو كان الثمن محاصرة شعب بكامله وتجويعه وإذلاله، وفي النهاية المعادلة هي نفسها: «من لم يرد الإخوان وحماس حصل في النهاية على القاعدة».
للأسف الشديد، وجود القاعدة في غزة ما زال في بداياته والأمر مرشح للتصعيد، إذ حسب استطلاع قام به مركز الأبحاث التابع لجامعة النجاح في نابلس ونشر في 22 أيار 2007، فإن 82% من الفلسطينيين متشائمون من الوضع العام في هذه المرحلة، و92% لا يأمنون على أنفسهم وأملاكهم، و79% يعتبرون أن وضعهم الاقتصادي قد تطور نحو الأسوأ، و82% يعتقدون أن الأوضاع الأمنية تطورت نحو الأسوأ، وكل هذه الأمور هي قطعاً وحتماً أجواء مؤاتية للقاعدة لمزيد من الانتشار والصعود، وسيكون الضحية المشروع الوطني الفلسطيني بكامله، وستجد قوى المقاومة الفلسطينية نفسها، كما نظيرتها في العراق، في مواجهة نار الاحتلال من الأمام ونار القاعدة من الخلف إذا لم يتم التحرك بمسؤولية ووعي وجدية على مستويات مختلفة سياسية وفكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية. وأما أن هذا الأمر مستبعد حدوثه في ظل الواقع الراهن المهترئ والرديء، فإن أياماً سوداء تنتظرنا جميعاً والرابح الأبرز يتمثل في إسرائيل التي كانت وما زالت تحلم بحرب أهلية فلسطينية معلنة أو مستترة تزيح القضية الفلسطينية من جدول الأعمال العربي والدولي وتريحها في الوقت نفسه من دفع أثمان الاحتلال ومصادرة حقوق وثروات الشعب الفلسطيني ونهبها.